الجمعة، 23 يونيو 2017

حــــــــــاطب الليـــــــل 2 - بقلم- خديجة منادي السباعي /المغرب,,,,



حــــــــــاطب الليـــــــل 2 - بقلم- خديجة منادي السباعي /المغرب
-------------------------------------------------------------
 كان يدخن لفافة التبغ الأمريكي وعيناه تتحولان هنا وهناك بحثا عن صيد ثمين..وهو يبدو أكبر من سنه الذي لايتعدى العشرين إلا بعامين ،قويا مهيبا وزاده شاربه مهابة ..
 تلفت حواليه فرأى أخيرا ضالته..جسد غض، مسربل بلباس يكشف عن جزء من النهدين وفخدين طريين..ظل يرقبها وهي تدخن مثله وتمسح بعينيها وجوه الرواد ، وحالما وقع بصرها عليه تحفز باندفاعه الطبيعي للاصطياد..غمز بإحدى عينيه الضيقتين، ابتسمت، كرر الحركة وهو يبتسم وقلبه يرقص طربا..
 خلا البيت إلا من أحمد والإبن الأكبر حسين الذي كان منكبا على الكتابة، وهو في الخامسة والعشرين وعلى حد اعتراف أمه، كان ميلاده طالع سعد على الأسرة حيث التحق والده بالعمل في المطبعة بعد ليل قساه في التجوال القهري للنبش على الدرهم، وهو لايفتخر بما وافق ميلاده من الخير والبشرى. وحسين ليس غريب الأطوار كما تلح عائلته في ذلك فهذا الكائن المتجعد، المرسوم بالقلق ، المثقل بهموم الواقع الكبير وقضاياه يكاد يعد أحمقا في نظر رعاء الناس، وربما كان للجهل المغلف بالأمية والاهتمام بالتفاصيل الصغرى للحياة يدا في هذا الرشق الراجم.وهؤلاء الذين يشكلون القاعدة الكبرى للمجتمع ومنهم أحمد وزوجته وإبراهيم الكادح ينظرون إلى المثقف نظرة استخفاف وبلهجة مستملحة نظرة استغراب...
 في هذا الجو المشحون بضباب الواقع وصراخه، يطلق حسين سخريته اللاذعة في رسوماته الكاريكاتورية كتعبير عن رفضه ومناهضاته، تنثال الكلمات الشعرية،كلمات قوية، سليطة قاسية، وربما طغت نزعته الشعرية على كلامه الشفوي فجاء بكلام غريب على مسامع أهل الدار وهو غير متعمد.. والعجب أن هذا الشاب الثائر خجول حد الارتباك، متوحد لاتفارقه هواجسه وهمومه وأوراقه المسطورة، سكيت إلا مع فصيلته التي تأويه ومعارفه القليلة، ناكس الر؟أس لايرفعه إلا تأملا وإيهاما بأنه يسمعك وإن كان لايسمعك لأنه كثير الشروذ، وكحاطب ليل لايضويه إلا الليل والمساءات المكتنزة والنهارات المصهدة، يبسط يد الكتابة، ويدلل مدادا من علاماته الفضح، كان منغمسا بدفئ الكتابة عندما هتف به الوالد الذي لعب الكيف برأسه
- أراك منهمكا في الكتابة كأنك تستحضر الأرواح..
ولما لم يجبه استطرد
 - تنقصك المبخرة أيها الفقيه..ثم معلقا، الكتابة إرهاق للنفس وإهراق للمداد ومضيعة للوقت دروسك أولى أيها الأحمق..
 رفع رأسه عن وجه مكور نبت في وسطه أنف شبه معقوف بين عينين غائرتين وشفتين دقيقتين ،وقال بصوت مبحوح
- الكتابة تطهير،فضيحة وطبيبة تجس نبضي ونبض الآخرين.
وقال الوالد مقهقها
- طبيبك في الماريستان !!
- الجنون هو سمة العصر بلا منازع..
- ماذا تعني ؟
- مافي الجبة إلا الخروقات والتماطل والتهميش والتقصير وبؤس يتمدد وبلادة عامة وزرع الفتن..
هاجمته عبارات "الباطرون" النابية، فتحامل على نفسه مغيرا مجرى الحديث
- متى يعود إبراهيم ؟
بعد صلاة التراويح
- مسكين هذا الولد،إنه يكابد ولما يشتد عوده
- إنه في محك الحياة، إنه يتعلم..
- والأرعن عباس متى يعود؟
- يقول سيذهب لصلاة التروايح
- ولكن أمك لاتراه في المسجد.
يقول أنه يصلي في مسجد الحي القريب بحجة أن إمام مسجدنا لايعجبه..
- لايعجبه أحد
- وحدها التي تعجبه، نفسه..
 - لو قدر لعباس أن يكون رئيس الجماعة لما تردد لحظة واحدة في تحويل المزبلة إلى مرقص تتلوى في رحمه الأجساد المريضة وتلوذ فيه النفوس المكبوتة باللذة..
- ليس في الإمكان أفضل مما كان...
ترك جسدها ملقى على السرير، وطفق ينتعل حذائيه غير آبه بعباراتها الصاعدة من عمق انكسارها.
 - أبي مات منذ عشر سنوات، وتزوجت أمي رجلا قاسيا جائعا..كان الشيطان يراودني عن نفسه وأذكر أني همت به وهم بي...ياليتني لم أذعن له لأن هذا الخضوع كان فاتحة لانعطافي القميئ إلى السقوط ناهيك أنه كان فضيحة أبشع مما تتصور..عادت أمي في المساء من السوق بسرعة لم نتوقعها، ضبطتنا في غمرة العناق،أغمي عليها وفي ذلك اليوم الأسود تركت البيت وكل شئ، كل شئ..وتحولت إلى ما ترى الآن لضمان لقمة العيش،أنت لاتدرك ولن تدرك ما أقاسي الآن..
رد عليها وهو ينفحها ورقة مالية
- خيرا فعلت الشرف وهم ابتدعته الشرائع وهضمه الإنسان..
- هل ترضى أن تتزوجني
 - الزواج عندي مصلحة..ولاشئ منها لديك، إسمعي يابنت الناس، إبحثي لك عن خروف " مريش" تعقلينه بقيد الزواج، أما أنا عندما أفكر بالزواج سأختار ثرية ولايهمها ماضيها ولا حاضرها ولامحلها من الإعراب الاجتماعي، مايهم هو مالها ومتاعها
- كلكم صنف واحد، ذئاب جائعة تنهش لحم الضعاف، أنت جائع طماع
- وخبيث
- ألم تحب في حياتك؟
- الحب ضعف عائق يا...
- ثريا
- إسمي عباس وراسب في البيت الرابع إعدادي..
- ألا تنوي متابعة الدراسة..
-الأيام كفيلة بالإجابة على سؤالك
 نظر إلى ساعته قبل أن يحول رأسه إلى الباب حال أن سمع صريره، كان القادم رجلا متجلببا، ضخم الجثة،أصلع الرأس،في إحدى يديه تفاحة يتلهى بقضمها وفي يده الأخرىكتاب عن أسرار الجنس وهو يدندن بأغنية " الهوى سلطان " وقبل أن ينبس عباس بادره قائلا
- هل انتهيت.
 - أشكرك مصطفى على حسن الضيافة.. وانصرف.
-تقبل الله صلاتك أيها المؤمن الصالح.
هتف الوالد بلهجة متهكمة ورد عباس مظهرا التقوى
- سبحان الله، المساجد لاتكتظ عن آخرها إلا في رمضان، ما أكثر عبدة الحريرة ياأبي..
- أجبني أين كنت
- كنت أصلي التراويح
- أين؟
- في المسجد طبعا
-أي مسجد؟
- مسجد الله
- أي مسجد؟
- مسجد الحي المجاور
- ماشاء الله لايعجبك إمام مسجدنا أليس كذلك؟
- هو ذاك ياأبي، تصور إنه يتعجل في الصلاة كالمجنون
- إذن فأنت تحب التأني في الصلاة الثقيلة
- عفوا الصلاة الخاشعة
- ماشاء الله ،اللهم اجعلنا من الخاشعين،قطعا أنت لم تذهب إلى المسجد.
- ومن قال ذلك؟
- وجهك،أنظر إلى أحمر الشفاه الذي يلوث خديك
مرر سبابته على وجهه، علق أحمر الشفاه في أعلى السبابة، لاذ بالكذب والمكر كعادته قائلا
 - أوه نسيت أن أقول لك أني صادفت عمتي وابنتها وأنا في طريقي إلى المسجد، لم ترض ابنة عمتي بمجرد المصافحة
- وقبلتك على خدك
- مجرد سلام عابر وبريئ ياأبي..
 - أدخل أيها الثعلب الماكر، قلل الله أمثالك.
لم يعد إبراهيم إلا بعد أن ارتجل الليل، كان منهكا،متعبا، فقد قضى الليل إلا نصفه يدلك العجين لتشكيل الحلوى واعتذر بلباقة لصاحب الحانوت الذي طلب المكوث معه حتى السحر، وحجته في ذلك أنه لم يعلم والديه بأنه سيتأخر، وتقبل الرجل اعتذاره ثم سمح له بالانصراف بعد أن سلمه أجرته ولما يجف عرقه وعلاوة هي مجرد حفنة من الحلوى المتشابكة
هو مثل والده، أمي،طيب ساذج،يمقت الخمول، وينبش عن الدرهم سالكا طريقا آمنا، قطع مسافة طويلة مشيا على قدميه وهو يفكر في نهاية امتداد هذا الليل القاسي، فلم يجد بدا من الدعاء وارتياد حلم اليقظة بالمجان، فرأى نفسه فتى عظيما يركب سيارة فرهة إلى جانب السائق، فهو يرفض السياقة حتى في حلمه خوفا من شر الحوادث، ورأى زوجا تنتظره كأنها البدر،لباسها حرير وصوتها خرير..وهي تخاطبه بحنو وحب ليس له مثيل " لماذا ترفض ماماك العيش معنا "
وهو يقول " سأسكن والدتي في فيللا مع والدي،أما أخواي فالخير ينتظرهما على يدي، سأنشأ فندقا سياحيا كبيرا يديره عباس حسب خبرته،وسوف أبني مجلة عظيمة الصيت ليمتلكها حسين .
- وحسن أخوك الصغير؟
- سأجعله صبيا متأنقا متألقا ممتازا، مارأيك هل ندرسه في فرنسا أم كندا،أظن الصين أفضل ؟
- الرأي رأيك حبيبي، ستحقق كل مشاريعك إن شاء الله ، والآن إلى العشاء..
- وبعد العشاء ..
- إنك تخجلني، هيا قم فثمة خروف مشوي في انتظارنا...
كان قد وصل إلى هذا الحد من التفكير وحلم اليقظة حين تسربت رائحة "البيصارة" إلى خياشيم أنفه الأنفطس وهو يدلف إلى البيت العتيق..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق