لماذا ينتحر أبطال الروايات؟
أحمد خلف
(وضعت هذا العنوان مجازا لغرض تقريب الصورة .. صورة الموضوع الذي شغلني طويلا .. الموضوع الذي سيتعرف عليه القارئ عن كثب خلال القراءة )
ليس امرا معتادا ان نألف نهايات مشتركة اومتشابهة للروايات او الروائين , نهايات ذات طبيعة واحدة كما هو الحال في عدد معين من الروايات العربية والعالمية ايضا , وكثيرا ما تهزنا النهايات التراجيدية لبعض القصص والروايات التي قرأناها في فترة شبابنا حيث تتم ملاحقة / القارئ / للاحداث التي تتفاعل على صفحات الكتاب وتتوزع طبيعة الاحداث تلك على نمطين معروفين هما احداث تجري بصورة ثانوية تعزز الاحداث الكبيرة التي عليها تقع نهاية ابطال الرواية أو نهاية الرواية كحدث يعنينا من قريب أو خلافه وغالبا ما تكون نهاية مأساوية.
ولا يعني هذا اننا هنا نصدر رأيا نعممه على كل ما قرأناه من روايات عربية وعالمية , ثم نحن نعلم ما للمكان او الظرف العام او الخاص من تاثير على الكتّاب وكتابتهم لرواياتهم , لذا تمتزج في احيان كثيرة نهايات بعض الروايات وتتشابه او تتجانس من حيث النتيجة مع حياة كتّاب اخرين ونهاية تلك الحياة , ولا اعني انهم يقلدون في النهايات المأساوية روايات اخرى انتهت بصورة محزنة .. لا اعني ذلك ابدا بل ما اعنيه هو :ـــــ امتزاج بعض الاقدار التي تجعل من النهايات متجانسة بين الروائيين وبين عدد من روايات معينة , فالذين عاشوا مأساة الحروب العالمية مثلا سنجد رواياتهم تأتي تعبيرا محضا عن معاناة جسدها امامهم اشخاص او هم عاشوها في تلك الفترة العصيبة من حياة البشرية , بينما الذين لم تلحق بهم اضرارمباشرة من الحرب -اي حرب- سواء عاشوا تفاصيلها ام كانوا على هامشها , هؤلاء ستجدهم يمتلكون رؤيا محددة تخصهم وحدهم بالتاكيد مغايرة للذين عاشوا فترة الحرب وهم في اتونها. وهكذا تتحدد رؤيا الكاتب وتصوراته عن الحياة التي فرضتها الحرب كظاهرة منحرفة عن السلوك البشري العام وتصبح لها خصوصية ( الحرب ) يديمها من هو منتفع منها لتحقيق نوع من انواع الجبروت والطغيان او تحقيق مآرب اخرى او من سار على دربهم في اشعال الحرائق والفتن , وعموما لا توجد نهاية للحروب الا النهايات التراجيدية و المأساوية التي ستنعكس بصورة مباشرة او غيرها على الروايات التي سيكتبها الروائيون , كالنهاية التي صنعها نجيب محفوظ (سيد الرواية العربية) لعدد من ابطالهِ كعمر الحمزاوي في رواية (الشحاذ) حيث يموت مهجورا بل ومسطولا لا يدري ماذا يجري من حوله وهل مات أحد من معارفه ام تزوجت ابنته الوحيدة ؟ وسعيد مهران (اللص والكلاب) الذي ينتهي نهاية لا تقل عن نهاية عمر الحمزاوي فقد راح سعيد مهران يواجه فساد العالم بمسدسه وقد احاط به العسس من كل حدب وصوب وطوقوا المقبرة التي لجأ اليها كمأوىً يتخفى به عن عيون رجال القانون الذين سيردوه قتيلا في ماواه . وفي الرواية العالمية نهايات مأساوية ذات طبيعة دراماتيكية انحفرت في الوجدان , من منا لا يتذكر النهاية المؤلمة لرواية ( للحب وقت وللموت وقت) حيث يسدد احد الجنود الروس طلقة لبطل الرواية وهو الجندي العائد من الحرب ( جريبر) ليرديه قتيلا:ـ ((ولم يحس جريبر بالطلقة, وانما رأى الحشائش امامه, كنبات قريب جدا من عينيه لم يذبل من وطأة الاقدام , بل يحمل زهورا عشبية حمراء واوراقه الرقيقة تكبر .... )) ولم استطع نسيان بطل (الساعة الخامسة والعشرون) حيث يقف بطلها امام لحظة الاعدام ويطلب منه الجلاد ان يبتسم. تلك النهايات لا استطع ان انساها ولا يتمكن الزمن منها او حذفها من الذاكرة فكيف الحال مع صنّاع تلك الروايات وخلال بحثي في مكتبتي عن سير بعض الكتّاب الذين شكلوا جزءاً اساسيا من نسيج تفكيري, كالنهاية المأساوية للمفكر الفرنسي البير كامو حيث تساوق القدر الاعمى مع فلسفة كامو بالعبث, ليرسم ذلك القدر النهاية التراجيدية لصاحب رواية (الغريب, والسقطة , وتيبازا , وجميلة , والانسان المتمرد) وحتى ما سطره البير كامو من صفحات تتسم بالمأساوية كما هي روايته الطاعون, وفي الغريب حيث الحياة اللا ابالية التي يعيشها ميرسو لتنتهي بقتل الاعرابي .. واثناء تقليبي لمجموعة كتب سير الكتّاب ويومياتهم وحياتهم كانت سيرة ستيفان زيفايج الكاتب النمساوي ( صاحب كتاب بناة العالم وامرأة في الثلاثين ) الذي اختار بلداً بعيدا عن مسقط رأسه بعدما شاهد كيف تنهار اوربا وحضارتها وهي حلمه الذي قوضه الفاشيون والقتلة من امثال هتلروموسوليني ليموت هناك في البلد البعيد , في البرازيل وليس هو وحده من قرر ان ينهي تلك الحياة العصيبة بل أخذ معه الزوجة في لحظةٍ واحدة, تلك النهاية التي فرضتها الظروف العامة على كاتب رشيق العبارة هي ظروف استلام هتلر دفة الحكم في المانيا وما قام به من بطش وقتل للأدباء والكتّاب والمبدعين اليساريين من شعراء وروائيين، كان الظرف الضاغط على ستيفان زيفايج هو الذي تحكّم بالارادة الشخصية لهذا الكاتب. تلك النهاية السوداء دفعت الى ذاكرتي نهاية الكاتبة البريطانية المتفردة والمتميزة برهافتها وعذوبة رواياتها ذات المسحة العبثية أعني بها فرجينيا وولف حيث نزلت الى البحر ولم تعد ....وقد يظن بعضنا ان مصير الكتّاب والادباء الذين يتحدثون عن الموت في ابداعهم الروائي وبصورة حميمية مع الموت هم اقرب الى الموت , او انهم حين يدخلون على تفاصيل ابطالهم الذين يدفعونهم نحو الهاوية انما يكون الموت ايضا من نصيب الكتاب انفسهم , وليس ابعد من حياة الكاتبة التشيلية ايزابيل اللندي التي تعيش اليوم في الولايات المتحدة الامريكية عن حياة بطلتها في روايتها (انيس ... حبيبة روحي) .. تلك النهاية المأساوية التي خصت بها بطلتها انيس او بطلها بيدرو .. حيث جاءت النهاية : (( كانت روحي ترافقه عن بعد , تبكيه وتبكي كل ضحايا هذه السنوات , اصابني الوهن , مع تقيؤ شديد وحمى شديدة التأجج وقد خشي الجميع على حياتي وفي نوبات هذياني , كنت اسمع بوضوح صرخات بيدرو وصوته يودعني آخر مرة ((وداعا يا انيس يا حبيبة روحي )) الرواية ص350 )) ..... على هامش هذا النص اردت ان احيي ذكرى صديقي الراحل الشاعر والرسام العراقي اليساري ابراهيم زاير, الذي انهى حياته وهو يرفع سلاحه ضد العدو مع الجبهة الشعبية في لبنان مع المقاومة الفلسطينية الباسلة ... موت ابراهيم زاير لا يشبه موت الكاتب الفلسطيني الشهير غسان كنفاني الذي ينبغي ان نحييه ايضا , غسان الذي اغتالته اسرائيل , كان يعلم ماهية الطريق الذي اختطه بإرادته ووعيه دفاعا عن قضيته الوطنية , وفي قضية اختياره لنوع الطريق الذي اختطه واتخذه علاجا لا تملص منه للوصول الى حل ناجع لقضية فلسطين , اعني به طريق النضال والكفاح الوطني كان يدري ثمن ذلك الموقف ولم يكن موته بارادته وان كان يتوقعه انما اغتيل اغتيالا , لأن ما قدمه غسان من تفكيك للبنية العنصرية للدولة العبرية انما كان ثمنه باهظا وهو اغتياله وكان يعي ذلك تماما . وهنا يمكن للطريق والموقف الذي قرره واتخذه الشاعر والرسام العراقي ابراهيم زاير ان يتوحد في نقطة واضحة وهي مقرونة بالعدل بينهما , فقد اتخذ ابراهيم زاير قراره في الانتساب الى احدى المنظمات الفلسطينية تعويضا عن خسارة انتمائه الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي , وذلك بعد الانشقاق الشهير في صفوف الحزب في سبعينيات القرن العشرين , ولما ذهب ابراهيم زاير الى بيروت لينتسب الى المقاومة الفلسطينية كان يحمل في اعماقه تلك الصدمة , صدمة تداعي الحزب وهو المخلص الى انتمائه ولم يحتمل ان تتكرر تجربة الانشقاق ثانية وامام عينيه , فقد كان الانقسام الذي حدث في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين , هذا الانقسام وذلك الانشقاق كان ابراهيم لايرى فيه ضرورة , مما ضاعف الصدمة لديه وفي اعماق نفسه القلقة الحزينة .. وارى هذا من المقارنة بين الحالات التي شكلت صيرورة كل منهما كما فعلنا مع سرد نبذة عن حياة الشاعر والرسام العراقي ابراهيم زاير , الذي لا بد له من ان يعيد علينا ما آلت اليه حياة الكاتب النمساوي ستيفان زيفايج الذي ظل هاربا من بطش الفاشية الهتلرية حتى استقر في ابعد بلد عن وطنه وحاول الاستقرار مع زوجته في ذلك البلد –البرازيل- ولكن حين وجد انهيار معظم قيم الحضارة والمدنية في اوربا التي احبها زفايج من صميم عقله وقلبه وهذا الحب والتعلق بأوربا ليس حبا عابرا لديه فهو ينظر الى مستقبل الانسانية من خلال مستقبل اوربا , والغريب رآها امام عينيه كيف تنهار دفعة واحدة امام جبروت رعاع هتلر وعسسه لم يعد يطيق العيش بعد تلك الانهيارات المدنية والحضارية والانسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق