قصة قصيرة_____ لٓيْلُها الطويل..
غاص قرص الشمس في الأفق ، وسقط شعاعها الذي يحتضر على وجه شابة جميلة رغم ذبوله..وفقدانه لنضارته..بدت عيونها حزينة ولا أثر للحياة فيها..كانت تمشي بخطوات أثقلتها الهموم والحاجة..ترتدي جلبابا طويلا تكاد تدوس أطرافه..وتضع وشاحا قديما تلف به شعرها الطويل المنفلتة خصلاته من الجوانب.
في ذاك المساء..كانت الحركة والجلبة على أشدها ، فالأولاد يلعبون الكرة في ذلك الزقاق الذي يظهر الفقر جليا في كل معالمه..والشيوخ يجلسون أمام دكان يلعبون الورق و النرد..و يرفعون بصرهم أحيانا لمراقبة المارة ..ولاسيما جميلة.. تلك الشابة الحسناء الرقيقة التي تمر أمامهم كل يوم .. لطالما أشفقوا عليها من الضنك والعذاب الذي تعيشه رفقة زوجها الإنطوائي في غرفة معتمة في سطح ذاك المنزل المتهالك..تابعت جميلة طريقها دون أن ترفع بصرها أو تهتم لأي شيء..كأنها وحدها التي تقطن في ذاك الحي..وحدها التي تسير في الطريق.وصلت إلى المنزل..دفعت الباب ببطء..وصعدت درجات السلم بأقدام منهكة..همت بوضع المفتاح في الثقب..و جفلت حين فتح زوجها الشاب الباب على حين غرة..كان نحيلا ..ذو شعر كث لا يتناسب وملامحه الدقيقة..رمقها بنظرات متجهمة..من عينين غائرتين حمراوين يتطاير الشرر منهما ، نظرت إلى طفلها الصغير المتكوم في ركن الغرفة وقالت بضيق:
_لماذا لم توقظه؟ أجابها بتهكم :
_ولم سأوقظه حتى استمتع بصراخه مثلا؟ هرعت إليه تهزه بحنان..وأخرجت لوح شكلاطة من حقيبتها..! صرخ بنفاذ صبر:
_أريد أن أخرج..! التفت إليه وأشارت إلى الباب وقالت ببرود:
_تفضل..! جذب حقيبتها بعنف وبدأ يرمي بمحتوياتها في وجهها..صاح محتدا:
_لا تقولي أن السيدة لم تمنحك أجرتك اليوم أيضا..أوأمت برأسها وقالت بهدوء :
_هذا صحيح..وعدتني بأنها ..قاطعها بغضب هادر:
_لقد مللتك ومللت هذا العيش المضني معك يا وجه الشؤم..!
احتضنت ابنها وكأنها تحتمي به من غضب والده ..راقبته وهو يصرخ ويسب ويلعن..اعتادت ثوراته تلك..كان حبه ينكمش في قلبها ويتضاءل يوما بعد يوم..حتى لم يتبق منه شيء بالمرة.
بعثر أغراض الغرفة بهيجان شديد والتقط ملابس قليلة وضعها في حقيبة علقها على كتفه..هم بالخروج ثم تراجع واقترب منها وابتسم ابتسامة مقيتة ثم قال بحقد:
_ربما تتخلين عن برودك حين تعرفين أني سأتركك وأعود إلى أهلي ..! شحب وجهها لهول المفاجأة وهبت واقفة وسألته بلهفة:
_أحقا ما تقول..سنعود؟..يا إلهي أخيرا..بعد أربع سنوات من الهروب والاختباء..سنعود وأرى أمي وإخوتي و..قاطعها بسخرية :
_أنتِ أيتها البلهاء انتبهي إلى كلامي..لقد قلت سأعود..يعني وحدي..سأعود..!
جحظت عيناها من فرط الدهشة وسألته بقلق :
_ماذا تقصد؟ اتجه صوب الباب وقال :
_سأعود وحدي وأنت ستمكثين في هذه الغرفة البائسة مثلك حتى تتعفنين فيها وتموتين..! تبعته بسرعة وجذبت يده برجاء وقالت بضراعة :
_أنت تمزح صحيح؟ أجابها بكراهية :
_لم أكن جادا في حياتي كاليوم..أنت مجرد نحس جلبته لنفسي.لكني قررت التخلص منك سأعود إلى أهلي..على الأقل أنا لست لصّاً مثلك..كما أني كنت أطمئن والديّ على أحوالي وأراسلهما باستمرار..هز كتفيه وأردف بزهو:
_كما ترين لا مشكلة لدي أبدا..! وبالطبع يسعدني الانفصال عنك.. حين تحصلين على مبلغ محترم سأكون مستعدا للتفاوض ..وبالنسبة للطفل لا يهمني أمره ..ربما ينفعك إذا أردت التسول به في الطرقات ..والآن تمني لي طريق السلامة..قهقه ضاحكا بشماتة وتابع :_
_ وداعا جميلتي الكئيبة ..! صفق الباب وراءه بعنف ومضى مسرعا..
تراجعت إلى الوراء بذهول..وظل صدى قهقهاته و كلماته يتردد داخلها بقوة..نحس ..أنا مجرد نحس في حياته..!
تهالكت على أرضية الغرفة فوق سجادة قديمة..وأطلقت لدموعها العنان..ولذكرياتها أيضا..هتف صوت داخلها يخاطبها بقسوة:
_ألست أنت نفسك جميلة ..مدللة والديك ..آخر العنقود ،جميلة البيت والحي معا؟..والتلميذة الذكية والألمعية..كان ينتظرك مستقبل مشرق لولا طيشك..هزت رأسها وانبعث صوت آخر من أعماقها قائلا:
_لم يكن طيشا بل كان حبا أعمى..! ذاك الفتى اللئيم ابن الجيران ، عرف من أين تؤكل الكتف وتربص بي..لم يمل من كلامه المعسول ، في كل يوم عند سور المدرسة..أشعرني أني أميرة وأنه فارس قادم من زمن الرومانسية ، أهداني شعرا لم أعلم لحد الساعة من هو كاتبه و باقات ورد جميلة لا أدري من أين حصل عليها..حسد زميلاتي جعلني أغير نظرتي وأظن حقا أني محظوظة بحبه ، ولم أشعر وإلا وأنا أبادله مشاعره..! أقنعني بالهرب معه لأن أهلي لن يرضوه زوجا لي..ولم أدري بنفسي وإلا وفي يدي حقيبة مليئة بمال أقاربي ومصوغاتهم..كانت خطة جهنمية تلك التي اقترحها علي سمير..طرقت باب أقاربي فردا فردا لأطلب منهم مبلغا تحتاجه أمي وسترده بعد ثلاثة أيام..أما الحلي فكان أمرها اسهل بكثير..كان يكفي أن أقنع أقاربي أننا سنحضر حفل زفاف أحد من أصدقائنا وأقنع أصدقاءنا بحضور حفل إحدى قريباتنا..ابتسامتي البريئة وصيت أسرتي الطيب جعل المهمة غاية في اليسر..
تطلعت إلى سقف الغرفة بيأس مرير وتابعت تأملاتها..بدأت سلسلة صدماتها حين التقت سمير عند محطة القطار صفر اليدين..وتهرب من أسئلتها إلى حين الوصول إلى المدينة الأخرى فأجابها بتبرم :_
لم يرض أحد إقراضي المال..! وصمتت وتظاهرت بتصديقه في حين عزت ذلك إلى خجله وخوفه.
بعد العثور على غرفة بئيسة في السطح وتأثيثها بأفرشة قديمة مستعملة.. تزوجا..ومع مرور الأيام تبخر المال وبدأت المشاكل في الظهور...تلاشت غشاوة المحبة عن عينيها ..لتطفو الحقيقة المهولة ويظهر سمير العاشق بصورة أخرى .. عنيف وقاسي..وكسول يدفعها إلى العمل مرغمة ..ويسلبها أجرتها أولا بأول..ليرتاد المقاهي ويبتاع سجائرا ومخدرا رخيصا..ولم يرحم حملها وانهيار صحتها بعد الولادة..اكتفى فقط برعاية الصغير واطعامه ريثما تعود في مساء كل يوم وفي يدها أجرة هزيلة وبعض الأشياء البسيطة الي تتفضل عليها بها مخدومتها.
في غمرة نحيبها الصامت تحسست كف طفلها الصغير وجهها الشاحب..البسمة الوحيدة في قلب غمام أسود..أسرعت تجفف دموعها حين رأت الصغير يحملق فيها عابسا..وضمته إلى صدرها بحنان..وسالت دموع أخرى غزيرة..مضت ساعات وهي لا تزال منزوية في ركن الغرفة تبكي بحرقة.
تناهى إلى سمعها فجأة أصوات جلبة أسفل المنزل..وتعالت همهمات وصيحات..سمعت إحدى جاراتها تناديها..حملت طفلها على خصرها وهرولت تقفز درجات السلم بهلع..شيء ما جعل قلبها يقفز بعنف ويهوي بين ضلوعها..
كانا رجلين يحملان في أيديهما أوراقا..تسارعت أفكار مخيفة في مخيلتها..بادرها أحدهما:
_ماصلة قرابتك بسمير..؟ أجابت بسرعة:
_إنه زوجي..!
قال الآخر بعد تردد وهو يتحاشى النظر إليها:
_يؤسفني سيدتي أن أخبرك أن زوجك قد تعرض لحادث سير و توفي على الفور.
سيطر عليها ذهول حاد وشعور عنيف بالصدمة لم تعرف كيف أودعت طفلها تحت رعاية جارتها ولا كيف ارتدت ملابسها على عجل..
بعد برهة كانت تجلس في مكتب الشرطة..تجيب على بعض الأسئلة..تعاطُفُ الشرطي الخمسيني كان واضحا..بعد انتهاء الإجراءات الروتينية..ربت على كتفها وقال :
_أنتم غرباء يا ابنتي عن هذه البلدة..أخبري أهلك .. نحن سنساعدك في نقل جثمان الفقيد..هناك سيعتنون بك وبطفلك..وبالنسبة للحادث فالسائق اعترف بذنبه وشركة التأمين ستعوضك بمبلغ جيد..قدر الله وما شاء فعل يا ابنتي..!
كانت شاردة مصدومة لم تستوعب بعد ما حدث..لكن كلمة واحدة في خضم بحر كلمات المواساة التي انهمرت من فم الشرطي الطيب ، هي التي فهمتها بشكل جيد وبرقت في ذهنها كشعاع أمل في ليل مظلم طويل..كلمة أعلنت قرب بزوغ الفجر الذي غاب عن أيامها الحالكة السواد..العودة ..هتف صوت داخلها:
_العودة..نعم سأعود..وسأعتذر من أمي وأقبل قدميها ومن والدي وسأطلب العفو من أسرتي ومن الجميع ..وسأسدد ديوني حتى لو لم يتبق لي درهم واحد..وسيغفرون طيشي وجريمتي..لقد دفعت الثمن غاليا..لقد شعرت أن الله قد غفر لي..وهم كذلك سيسامحونني..سأعود أرملة بطفل صغير..ورأس منحني وكاهل مثقل بالديون..لكني سأعود أخيرا إلى أهلي..نعم سأعود..!
هتفت فجأة وهي ترفع رأسها إلى السماء:_الحمد لله..!
رفع الشرطي رأسه مندهشا ونظر إليها تنتفض وتقوم بسرعة..ودعته شاكرة إياه بحرارة..راقبها تنصرف بعجلة..ثم رفع حاجبيه مستغربا وعاد يستأنف عمله بآلية.
في ذاك المساء..كانت الحركة والجلبة على أشدها ، فالأولاد يلعبون الكرة في ذلك الزقاق الذي يظهر الفقر جليا في كل معالمه..والشيوخ يجلسون أمام دكان يلعبون الورق و النرد..و يرفعون بصرهم أحيانا لمراقبة المارة ..ولاسيما جميلة.. تلك الشابة الحسناء الرقيقة التي تمر أمامهم كل يوم .. لطالما أشفقوا عليها من الضنك والعذاب الذي تعيشه رفقة زوجها الإنطوائي في غرفة معتمة في سطح ذاك المنزل المتهالك..تابعت جميلة طريقها دون أن ترفع بصرها أو تهتم لأي شيء..كأنها وحدها التي تقطن في ذاك الحي..وحدها التي تسير في الطريق.وصلت إلى المنزل..دفعت الباب ببطء..وصعدت درجات السلم بأقدام منهكة..همت بوضع المفتاح في الثقب..و جفلت حين فتح زوجها الشاب الباب على حين غرة..كان نحيلا ..ذو شعر كث لا يتناسب وملامحه الدقيقة..رمقها بنظرات متجهمة..من عينين غائرتين حمراوين يتطاير الشرر منهما ، نظرت إلى طفلها الصغير المتكوم في ركن الغرفة وقالت بضيق:
_لماذا لم توقظه؟ أجابها بتهكم :
_ولم سأوقظه حتى استمتع بصراخه مثلا؟ هرعت إليه تهزه بحنان..وأخرجت لوح شكلاطة من حقيبتها..! صرخ بنفاذ صبر:
_أريد أن أخرج..! التفت إليه وأشارت إلى الباب وقالت ببرود:
_تفضل..! جذب حقيبتها بعنف وبدأ يرمي بمحتوياتها في وجهها..صاح محتدا:
_لا تقولي أن السيدة لم تمنحك أجرتك اليوم أيضا..أوأمت برأسها وقالت بهدوء :
_هذا صحيح..وعدتني بأنها ..قاطعها بغضب هادر:
_لقد مللتك ومللت هذا العيش المضني معك يا وجه الشؤم..!
احتضنت ابنها وكأنها تحتمي به من غضب والده ..راقبته وهو يصرخ ويسب ويلعن..اعتادت ثوراته تلك..كان حبه ينكمش في قلبها ويتضاءل يوما بعد يوم..حتى لم يتبق منه شيء بالمرة.
بعثر أغراض الغرفة بهيجان شديد والتقط ملابس قليلة وضعها في حقيبة علقها على كتفه..هم بالخروج ثم تراجع واقترب منها وابتسم ابتسامة مقيتة ثم قال بحقد:
_ربما تتخلين عن برودك حين تعرفين أني سأتركك وأعود إلى أهلي ..! شحب وجهها لهول المفاجأة وهبت واقفة وسألته بلهفة:
_أحقا ما تقول..سنعود؟..يا إلهي أخيرا..بعد أربع سنوات من الهروب والاختباء..سنعود وأرى أمي وإخوتي و..قاطعها بسخرية :
_أنتِ أيتها البلهاء انتبهي إلى كلامي..لقد قلت سأعود..يعني وحدي..سأعود..!
جحظت عيناها من فرط الدهشة وسألته بقلق :
_ماذا تقصد؟ اتجه صوب الباب وقال :
_سأعود وحدي وأنت ستمكثين في هذه الغرفة البائسة مثلك حتى تتعفنين فيها وتموتين..! تبعته بسرعة وجذبت يده برجاء وقالت بضراعة :
_أنت تمزح صحيح؟ أجابها بكراهية :
_لم أكن جادا في حياتي كاليوم..أنت مجرد نحس جلبته لنفسي.لكني قررت التخلص منك سأعود إلى أهلي..على الأقل أنا لست لصّاً مثلك..كما أني كنت أطمئن والديّ على أحوالي وأراسلهما باستمرار..هز كتفيه وأردف بزهو:
_كما ترين لا مشكلة لدي أبدا..! وبالطبع يسعدني الانفصال عنك.. حين تحصلين على مبلغ محترم سأكون مستعدا للتفاوض ..وبالنسبة للطفل لا يهمني أمره ..ربما ينفعك إذا أردت التسول به في الطرقات ..والآن تمني لي طريق السلامة..قهقه ضاحكا بشماتة وتابع :_
_ وداعا جميلتي الكئيبة ..! صفق الباب وراءه بعنف ومضى مسرعا..
تراجعت إلى الوراء بذهول..وظل صدى قهقهاته و كلماته يتردد داخلها بقوة..نحس ..أنا مجرد نحس في حياته..!
تهالكت على أرضية الغرفة فوق سجادة قديمة..وأطلقت لدموعها العنان..ولذكرياتها أيضا..هتف صوت داخلها يخاطبها بقسوة:
_ألست أنت نفسك جميلة ..مدللة والديك ..آخر العنقود ،جميلة البيت والحي معا؟..والتلميذة الذكية والألمعية..كان ينتظرك مستقبل مشرق لولا طيشك..هزت رأسها وانبعث صوت آخر من أعماقها قائلا:
_لم يكن طيشا بل كان حبا أعمى..! ذاك الفتى اللئيم ابن الجيران ، عرف من أين تؤكل الكتف وتربص بي..لم يمل من كلامه المعسول ، في كل يوم عند سور المدرسة..أشعرني أني أميرة وأنه فارس قادم من زمن الرومانسية ، أهداني شعرا لم أعلم لحد الساعة من هو كاتبه و باقات ورد جميلة لا أدري من أين حصل عليها..حسد زميلاتي جعلني أغير نظرتي وأظن حقا أني محظوظة بحبه ، ولم أشعر وإلا وأنا أبادله مشاعره..! أقنعني بالهرب معه لأن أهلي لن يرضوه زوجا لي..ولم أدري بنفسي وإلا وفي يدي حقيبة مليئة بمال أقاربي ومصوغاتهم..كانت خطة جهنمية تلك التي اقترحها علي سمير..طرقت باب أقاربي فردا فردا لأطلب منهم مبلغا تحتاجه أمي وسترده بعد ثلاثة أيام..أما الحلي فكان أمرها اسهل بكثير..كان يكفي أن أقنع أقاربي أننا سنحضر حفل زفاف أحد من أصدقائنا وأقنع أصدقاءنا بحضور حفل إحدى قريباتنا..ابتسامتي البريئة وصيت أسرتي الطيب جعل المهمة غاية في اليسر..
تطلعت إلى سقف الغرفة بيأس مرير وتابعت تأملاتها..بدأت سلسلة صدماتها حين التقت سمير عند محطة القطار صفر اليدين..وتهرب من أسئلتها إلى حين الوصول إلى المدينة الأخرى فأجابها بتبرم :_
لم يرض أحد إقراضي المال..! وصمتت وتظاهرت بتصديقه في حين عزت ذلك إلى خجله وخوفه.
بعد العثور على غرفة بئيسة في السطح وتأثيثها بأفرشة قديمة مستعملة.. تزوجا..ومع مرور الأيام تبخر المال وبدأت المشاكل في الظهور...تلاشت غشاوة المحبة عن عينيها ..لتطفو الحقيقة المهولة ويظهر سمير العاشق بصورة أخرى .. عنيف وقاسي..وكسول يدفعها إلى العمل مرغمة ..ويسلبها أجرتها أولا بأول..ليرتاد المقاهي ويبتاع سجائرا ومخدرا رخيصا..ولم يرحم حملها وانهيار صحتها بعد الولادة..اكتفى فقط برعاية الصغير واطعامه ريثما تعود في مساء كل يوم وفي يدها أجرة هزيلة وبعض الأشياء البسيطة الي تتفضل عليها بها مخدومتها.
في غمرة نحيبها الصامت تحسست كف طفلها الصغير وجهها الشاحب..البسمة الوحيدة في قلب غمام أسود..أسرعت تجفف دموعها حين رأت الصغير يحملق فيها عابسا..وضمته إلى صدرها بحنان..وسالت دموع أخرى غزيرة..مضت ساعات وهي لا تزال منزوية في ركن الغرفة تبكي بحرقة.
تناهى إلى سمعها فجأة أصوات جلبة أسفل المنزل..وتعالت همهمات وصيحات..سمعت إحدى جاراتها تناديها..حملت طفلها على خصرها وهرولت تقفز درجات السلم بهلع..شيء ما جعل قلبها يقفز بعنف ويهوي بين ضلوعها..
كانا رجلين يحملان في أيديهما أوراقا..تسارعت أفكار مخيفة في مخيلتها..بادرها أحدهما:
_ماصلة قرابتك بسمير..؟ أجابت بسرعة:
_إنه زوجي..!
قال الآخر بعد تردد وهو يتحاشى النظر إليها:
_يؤسفني سيدتي أن أخبرك أن زوجك قد تعرض لحادث سير و توفي على الفور.
سيطر عليها ذهول حاد وشعور عنيف بالصدمة لم تعرف كيف أودعت طفلها تحت رعاية جارتها ولا كيف ارتدت ملابسها على عجل..
بعد برهة كانت تجلس في مكتب الشرطة..تجيب على بعض الأسئلة..تعاطُفُ الشرطي الخمسيني كان واضحا..بعد انتهاء الإجراءات الروتينية..ربت على كتفها وقال :
_أنتم غرباء يا ابنتي عن هذه البلدة..أخبري أهلك .. نحن سنساعدك في نقل جثمان الفقيد..هناك سيعتنون بك وبطفلك..وبالنسبة للحادث فالسائق اعترف بذنبه وشركة التأمين ستعوضك بمبلغ جيد..قدر الله وما شاء فعل يا ابنتي..!
كانت شاردة مصدومة لم تستوعب بعد ما حدث..لكن كلمة واحدة في خضم بحر كلمات المواساة التي انهمرت من فم الشرطي الطيب ، هي التي فهمتها بشكل جيد وبرقت في ذهنها كشعاع أمل في ليل مظلم طويل..كلمة أعلنت قرب بزوغ الفجر الذي غاب عن أيامها الحالكة السواد..العودة ..هتف صوت داخلها:
_العودة..نعم سأعود..وسأعتذر من أمي وأقبل قدميها ومن والدي وسأطلب العفو من أسرتي ومن الجميع ..وسأسدد ديوني حتى لو لم يتبق لي درهم واحد..وسيغفرون طيشي وجريمتي..لقد دفعت الثمن غاليا..لقد شعرت أن الله قد غفر لي..وهم كذلك سيسامحونني..سأعود أرملة بطفل صغير..ورأس منحني وكاهل مثقل بالديون..لكني سأعود أخيرا إلى أهلي..نعم سأعود..!
هتفت فجأة وهي ترفع رأسها إلى السماء:_الحمد لله..!
رفع الشرطي رأسه مندهشا ونظر إليها تنتفض وتقوم بسرعة..ودعته شاكرة إياه بحرارة..راقبها تنصرف بعجلة..ثم رفع حاجبيه مستغربا وعاد يستأنف عمله بآلية.
حنين فيروز 2015/03/06
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق