قصة رقم/ 3 ( دموع خرساء )
من مجموعتي القصصية ( ما بعد الخريف )
الصادرة من دار الأمل / دمشق - 2015
من مجموعتي القصصية ( ما بعد الخريف )
الصادرة من دار الأمل / دمشق - 2015
دموع خرساء
كانت الحشود قوافل مسافرة نحو الجنوب، نحو الموت والخراب، تستجدي من الدروب رائحة بقاياها في ظلّ دموع خرساء، مختنقة بالخنوع والحرمان، يطلّ منها جفاف الزمن المسجى في ظلّ الحرب وأصداء اليأس، قوافل من التوابيت، جحافل من النساء الملتفّة بعباءات الدموع والعويل والفزع، جنود يحلمون بالأياب. كانت الأيام والليالي جراحاً نازفة بعصف الآهات، تلثم شفاه الكون بالصراخ، باحثة عن وجه الله في كونها المنسيّ في منعطف النيران والموت اليومي، عند منعطف المقابر المختنقة برفات القتلى، قتلى تبحث في الظلام عن بقايا كفن، لعلّه يغطي بعض عوراتها. كنت أنا وأمي، نلوذ بدمنا المحترق شوقاً لرؤية وجه أخي الذي عصفت به الأيام في دائرة المحنة، وهو لمّا يزل في مقتبل أحلامه البريئة. كان مساء (الفاو)* غائماً ينقر قلوبنا بالرعب، ومساء وجه أمي مشرقاً بأمل أن تلقاه:
-لاتخشَ شيئاً، سنلتقيه، أنا أعلم أنّ الموت لايحزّ رقبة الورد، عليٌّ بستان ورد. هكذا قالت لي أمي. كانت شعلة من الكبرياء، وأنا بقايا رماد، أرغب أن أغفو على ملامحه البريئة في ظلّ دموع أخفيتها خلف جدار الوجل. ولمّا اقتربنا من خلفيات وحدته العسكرية عند أطراف المدينة، تركت أمي خلف الأسلاك الشائكة، مفترشة تباريح قلبها، مبلّلة ريق الكون بما تبقّى من أمل. خلع المساء برقعه، لبس وجه الرعب المدجّج بالعتمة والتيه في احتمالات الفجيعة. كان الضابط برتبة عقيد، كرهته حين نهشتني مخالب عينيه بالموت قبل أن يمدّ يده بالسلام:
- ما اسم أخيك؟
- علي...
صاح على أحد الجنود وملامحه يعتريها الانزعاج:
أعطني قائمة أسماء الشهداء.
جفلت وطافت بي دهشة مطوّقة بحجب خفية على صمت سجلات الموت، سطور تجهش بأسماء غابت في صمت إلى الأبد، كان دمي مشنوقاً بالارتجاف، يرتجّ بحرارة القهر مثل عصفور صغير بيد طفل، كنت أرقب عينيه عن كثب، تقلّب صفحات الماضي، تجتاز الخطوط، خطوط الموت التي لعقت خفقات القلب بقسوة، وأنا معلّق في قبضة عينين تهزءان بأنفاسي اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات، أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق، وممّا زاد ارتباكي أنّه كان يفاجئني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي، كنت كنصف ميت، أذوق مرّ الهوان:
- ما اسم أبيه؟
- ................
كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك، كان يشبهني تماماً. مرّت ثوانٍ بعمر الكون، وأنا أرتّل في المدى دعاء له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات، عيناي تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا، إنّها مسافة شهقة موت أو حياة، مسافة ثماني سنوات رعب، متّشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي، تدور في قبضة الموت. ولمّا انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع، تحررت من أسر كابوس العزاء، هرعت إلى أمي ملوّحاً لها عن بعد بضوء أمل لعلّها تستظلّ به، كانت فَرِحة لأنّه لم يمت:
- ألم أقل لك أن الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد؟ أريد أن أراه.
ومضيت وحدي في سيارة الأرزاق إلى وحدته على أمل أن تراه أمي ولو لدقائق، مضيت والطريق إليه كما حدقة الموت، يغمزنا بجنائز تترى، تتقافز الأشلاء منها، أشلاء افترستها شهوات جنرالات الموت البلهاء، كانت الحرب تنطلق من خلف غرائز الصمت، فتفرّ الأجساد ويبقى الصدى معلقاً بغيمة، يترجّل منها دوي القذائف وأزيز الرصاص، ينخلع من ظلّها صراخ وبقايا رماد، مختلطاً بدخان يترقرق بدم يهذي بأحلام تحتمي بألمها. كان الطريق يلتهم بعض أنفاسي كلّما توغلت في مسافات الموت، مسافات بلا أزمنة، تزدحم بالغموض، بالغضب في ظلّ عبوات ناسفة، وضجيج المجنزرات وأمطار القذائف وبقايا شظايا، والفضاء مشتعل بالأرق والنسيان وظمأ الغزاة. كان الطريق ضريراً قبل آخر خطوة ونحن قاب الموت أو أدنى، الجندي الذي رافقني يحلم بموته في تمام صمت مضيء عند خليج السأم والأوهام، يلتمس خطوات أقرب إلى الجري، أدركت أنّنا نسير بلا ظلّ، تقتفي خطواتنا مساحة شاسعة من المخاوف، وأنّ الأرض تأخذ شكلّ الخنادق، والسماء تحمل أدمعنا، وظلال وجه أمي الذي ترك زيف المكان وجاء يسعى مرتعشاً في رحلة الإسراء، حاملاً دفء أحضان الأمس. لمحت عن بعد ظلال جنود، لوثت وجوههم سنين الدمار والخراب، كانوا كالموتى يحملون بقايا تعب دفين، تجمعهم حزمة من الجراح وباقة من طيوف الأسى، يصطفون خلف جنائزهم في زمن بِيْعَ فيه الماء والنخل، وصُودرت فيه خلاخيل الأمهات، جدائل الصبايا، ورغيف الخبز، زمن زرع وجه صباحاتنا جرحاً وسط ضجيج الأناشيد وصهيل موائد العهر. كان عليّ أن أقتفي أثره، أرقب أخباره وأنا أرسمه حلماً على قيد الحياة، ألقي السؤال بعد الآخر في موقد الفراغ، لعلّه يزهر فرحاً. كانت الخطى رثة طاعنة بالتعثّر، والموت ملقى بين خنادق صلبت على جدرانها أحلام الطفولة. أرخيت جفن العين، أطلقت في المدى وجه أمي، كان النور خافتاً يسطع ويغيب بين خوافي الريح، أخذ قلبي يرتجف بقسوة، وأنا ألمح شخصاً ما، قادماً نحوي، له ملامحي، فبرزت عيناه من تحت السكون ملوّحاً بـ(بيريته ) السوداء كطيف موشّى بالحنين، يتلو سيرة الخراب، تعانقنا عن بعد وخطواتنا لمّا تزل تحتلّ مواقعها، والشوق محنّى بالدمع، كان العناق مكتظاً باللوعة ومرايا الذكرى، تلاشينا وسط ينابيع العطش، ونحن نكتم دموعنا في سعة من الحضور:
- لقد تأخرتَ كثيراً.
- نعم تأخرتُ كثيراً...
حينها لم يكن للدمع محلّ، وأدركت أنّ قلب أمي لم تخنْه النظرة.
-----------------------------------------------------------------------------
* الفاو: منطقة في أقصى جنوبي العراق، شهدت أعنف المعارك في ظلّ حرب السنوات الثمان من ثمانينيات القرن العشرين .
البصرة/ 1986
-لاتخشَ شيئاً، سنلتقيه، أنا أعلم أنّ الموت لايحزّ رقبة الورد، عليٌّ بستان ورد. هكذا قالت لي أمي. كانت شعلة من الكبرياء، وأنا بقايا رماد، أرغب أن أغفو على ملامحه البريئة في ظلّ دموع أخفيتها خلف جدار الوجل. ولمّا اقتربنا من خلفيات وحدته العسكرية عند أطراف المدينة، تركت أمي خلف الأسلاك الشائكة، مفترشة تباريح قلبها، مبلّلة ريق الكون بما تبقّى من أمل. خلع المساء برقعه، لبس وجه الرعب المدجّج بالعتمة والتيه في احتمالات الفجيعة. كان الضابط برتبة عقيد، كرهته حين نهشتني مخالب عينيه بالموت قبل أن يمدّ يده بالسلام:
- ما اسم أخيك؟
- علي...
صاح على أحد الجنود وملامحه يعتريها الانزعاج:
أعطني قائمة أسماء الشهداء.
جفلت وطافت بي دهشة مطوّقة بحجب خفية على صمت سجلات الموت، سطور تجهش بأسماء غابت في صمت إلى الأبد، كان دمي مشنوقاً بالارتجاف، يرتجّ بحرارة القهر مثل عصفور صغير بيد طفل، كنت أرقب عينيه عن كثب، تقلّب صفحات الماضي، تجتاز الخطوط، خطوط الموت التي لعقت خفقات القلب بقسوة، وأنا معلّق في قبضة عينين تهزءان بأنفاسي اللاهثة بأطياف الحنين وأصداء الذكريات، أخشى أن تفتح لي جرحاً في خاصرة العشق، وممّا زاد ارتباكي أنّه كان يفاجئني كلّ لحظة وعيناه تقفان عند اسم علي، كنت كنصف ميت، أذوق مرّ الهوان:
- ما اسم أبيه؟
- ................
كنت أطوف حول ملامحي المختبئة بين السطور بخشوع ناسك، كان يشبهني تماماً. مرّت ثوانٍ بعمر الكون، وأنا أرتّل في المدى دعاء له نبض خوفي وضعفي وأنين الأمهات، عيناي تدوران بين الأسماء المرثية وبين ظلّ أمي القابعة خلف أسلاك المنايا، إنّها مسافة شهقة موت أو حياة، مسافة ثماني سنوات رعب، متّشحة بسواد القهر والحزن والتلاشي، تدور في قبضة الموت. ولمّا انغلق فضاء المجهول وختم على قلقي بالشمع، تحررت من أسر كابوس العزاء، هرعت إلى أمي ملوّحاً لها عن بعد بضوء أمل لعلّها تستظلّ به، كانت فَرِحة لأنّه لم يمت:
- ألم أقل لك أن الموت لا يقدر أن يحزّ رقبة الورد؟ أريد أن أراه.
ومضيت وحدي في سيارة الأرزاق إلى وحدته على أمل أن تراه أمي ولو لدقائق، مضيت والطريق إليه كما حدقة الموت، يغمزنا بجنائز تترى، تتقافز الأشلاء منها، أشلاء افترستها شهوات جنرالات الموت البلهاء، كانت الحرب تنطلق من خلف غرائز الصمت، فتفرّ الأجساد ويبقى الصدى معلقاً بغيمة، يترجّل منها دوي القذائف وأزيز الرصاص، ينخلع من ظلّها صراخ وبقايا رماد، مختلطاً بدخان يترقرق بدم يهذي بأحلام تحتمي بألمها. كان الطريق يلتهم بعض أنفاسي كلّما توغلت في مسافات الموت، مسافات بلا أزمنة، تزدحم بالغموض، بالغضب في ظلّ عبوات ناسفة، وضجيج المجنزرات وأمطار القذائف وبقايا شظايا، والفضاء مشتعل بالأرق والنسيان وظمأ الغزاة. كان الطريق ضريراً قبل آخر خطوة ونحن قاب الموت أو أدنى، الجندي الذي رافقني يحلم بموته في تمام صمت مضيء عند خليج السأم والأوهام، يلتمس خطوات أقرب إلى الجري، أدركت أنّنا نسير بلا ظلّ، تقتفي خطواتنا مساحة شاسعة من المخاوف، وأنّ الأرض تأخذ شكلّ الخنادق، والسماء تحمل أدمعنا، وظلال وجه أمي الذي ترك زيف المكان وجاء يسعى مرتعشاً في رحلة الإسراء، حاملاً دفء أحضان الأمس. لمحت عن بعد ظلال جنود، لوثت وجوههم سنين الدمار والخراب، كانوا كالموتى يحملون بقايا تعب دفين، تجمعهم حزمة من الجراح وباقة من طيوف الأسى، يصطفون خلف جنائزهم في زمن بِيْعَ فيه الماء والنخل، وصُودرت فيه خلاخيل الأمهات، جدائل الصبايا، ورغيف الخبز، زمن زرع وجه صباحاتنا جرحاً وسط ضجيج الأناشيد وصهيل موائد العهر. كان عليّ أن أقتفي أثره، أرقب أخباره وأنا أرسمه حلماً على قيد الحياة، ألقي السؤال بعد الآخر في موقد الفراغ، لعلّه يزهر فرحاً. كانت الخطى رثة طاعنة بالتعثّر، والموت ملقى بين خنادق صلبت على جدرانها أحلام الطفولة. أرخيت جفن العين، أطلقت في المدى وجه أمي، كان النور خافتاً يسطع ويغيب بين خوافي الريح، أخذ قلبي يرتجف بقسوة، وأنا ألمح شخصاً ما، قادماً نحوي، له ملامحي، فبرزت عيناه من تحت السكون ملوّحاً بـ(بيريته ) السوداء كطيف موشّى بالحنين، يتلو سيرة الخراب، تعانقنا عن بعد وخطواتنا لمّا تزل تحتلّ مواقعها، والشوق محنّى بالدمع، كان العناق مكتظاً باللوعة ومرايا الذكرى، تلاشينا وسط ينابيع العطش، ونحن نكتم دموعنا في سعة من الحضور:
- لقد تأخرتَ كثيراً.
- نعم تأخرتُ كثيراً...
حينها لم يكن للدمع محلّ، وأدركت أنّ قلب أمي لم تخنْه النظرة.
-----------------------------------------------------------------------------
* الفاو: منطقة في أقصى جنوبي العراق، شهدت أعنف المعارك في ظلّ حرب السنوات الثمان من ثمانينيات القرن العشرين .
البصرة/ 1986
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق