الأربعاء، 24 يونيو 2015

مقالة ثقافية عن (ملحمة كلكامش) / محررة مؤسسة وصحيفة فنون الثقافية / الكاتبة شمس العارف ....

مؤسسة فنون الثقافية:
صحيفة فنون الثقافية:
مقالة ثقافية عن (ملحمة كلكامش)
ملحمة جلجامش : هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 12 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش ملك أورك - الوركاء الذي كانت والدته إله خالدا ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بان ثلثيه إله والثلث الباقي بشر. وبسبب الجزء الفاني منه يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة جلجامش ملكا غير محبوب من قبل سكان أورك؛ حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أورك العظيمة.
ابتهل سكان أورك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم جلجامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الإلهات، واسمها أرورو، بخلق رجل وحي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات؛ أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية جلجامش. ويرى بعض المحللين أن هناك رموزا إلى الصراع بين المدنية وحياة المدن الذي بدأ السومريون بالتعود عليه تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.
كان أنكيدو يخلص الحيوانات من مصيدة الصيادين الذين كانوا يقتاتون على الصيد، فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش؛ فأمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها؛ وبهذا تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك جلجامش، وبدأت خادمة المعبد -وكان اسمها شمخات، وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار - بتعليم أنكيدو الحياة المدنية؛ ككيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ، ثم تبدأ بإخبار أنكيدو عن قوة جلجامش وكيف أنه يدخل بالعروسات قبل أن يدخل بهن أزواجهن. ولما عرف أنكيدو بهذا قرر أن يتحدى جلجامش في مصارعة ليجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الاثنان بشراسة؛ فهما متقاربان في القوة، ولكن الغلبة في النهاية كانت لجلجامش، حيث اعترف أنكيدو بقوة جلجامش، وبعد هذه الحادثة يصبح الإثنان صديقين حميمين.
يحاول جلجامش دائما القيام بأعمال عظيمة ليبقى اسمه خالدا؛ فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز؛ فيقطع جميع أشجارها، وليحقق هذا عليه القضاء على حارس الغابة، وهو مخلوق ضخم وقبيح اسمه خومبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز كان المكان الذي تعيش فيه الآلهة ويعتقد أن المكان المقصود هو غابات أرز لبنان.
رحلة كلكامش للبحث عن الخلود
عد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن بدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم جلجامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شاردا في البرية خارج أورك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن جلجامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. لكي يجد جلجامش سر الخلود عليه أن يجد الإنسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتنابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقا لشخصية نوح في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث جلجامش عن أوتنابشتم يلتقي بإحدى الإلهات واسمها سيدوري التي كانت آلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى جلجامش والتي تتلخص بأن يستمتع جلجامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وأن عليه أن يشبع بطنه بأحسن المأكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك لكن جلجامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتنابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال جلجامش إلى الطَوَّافٌ أورشنبي، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتنابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد جلجامش أوتنابشتم يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة وقصة الطوفان هنا شبيهة جدا بقصة طوفان نوح، وقد نجى من الطوفان أوتنابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهم الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار جلجامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على جلجامش ليصبح خالدا، إذا تمكن جلجامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة 6 أيام و7 ليالي فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن جلجامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتنابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتنابشتم بالشفقة على جلجامش فتدله على عشب سحري تحت البحر بإمكانه إرجاع الشباب إلى جلجامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود، يغوص جلجامش في أعماق البحر في أرض الخلود دلمون (البحرين حاليا) ويتمكن من اقتلاع العشب السحري.
و عودة كلكامش الى الوركاء بعد رحلة البحث
بعد حصول جلجامش على العشب السحري الذي يعيد نضارة الشباب يقرر أن يأخذه إلى أورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناوله ولكن في طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشب إحدى الأفاعي وتناولته فرجع جلجامش إلى أورك خالي اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أورك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت جلجامش وحزن أورك على وفاته.
و لم تؤثر ملحمة كلكامش علئ العرب فقط بالثارت اعجاب الاجانب
لم يحظ أثر ادبي قديم او حديث من آداب الشرق الاوسط باهتمام المثقفيين والباحثين الغربيين بمقدار ما حظيت به "ملحمة كلكامش" ا لعراقية. فمنذ ان ترجمها جورج سميث الى الانكليزية في عام 1872 وهي تشغل الاوساط الادبية والفكرية والنقدية في اميركا والغرب. بعد ان نقلت الى الانكليزية ظهرت لها ترجمات فرنسية، و المانية، و روسية، و هولندية، و سويدية، و ايطالية، و اسبانية، و عربية، و تركية، و فارسية وعبرية وغيرها. وككل الاعمال الكلاسيكية الرائعة التي لاتستطيع ترجمة واحدة ان تستنفذ مضامينها ودلالاتها أخذت تظهر لملحمة "الرافدين" ترجمات عديدة ومختلفة في معظم بلدان العالم. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا هناك الآن ما لايقل عن عشرين ترجمة انكليزية لذات النص، كانت أشهرها الترجمة الشعبية التي قامت بها ساندرز ونشرتها دار "بينكوين"، ثم تلتها ترجمة جان كاردنر وجان مئير التي نشرتها دار فينتج الشهيرة. وخلال العقد الاخير ظهرت ترجمات جديدة قام بها مختصون بالاشوريات امثال ستفيني دالي(1989) و مورين كوفاكس(1989) و سميا شابندر(1994) و اندرو جورج(1999) و ستيفن ميتشل(.(2004واخيرا حين لمس بعض الشعراء الاميركان بأن الترجمات النثرية عاجزة عن نقل الصور والمجازات والايقاعات الشعرية للنص الاصلي اخذوا يقومون بترجمتها شعرا. وخلال العقدين الاخيرين ظهرت ترجمات شعرية للملحمة قام بها هيربرت ميسن(1970)، و روبرت تمبل(1991) و ديفيد فيري(1992)، و داني جاكسن . (1997)
ان تأثير ملحمة كلكامش في الثقافة الغربية القديمة والمعاصرة لم يعد أمرا يحتاج الى برهان. فمنذ ان صارت الملحمة جزءا من برامج العلوم الكلاسيكية والادب العالمي - في الاربعينات - اخذ تأثيرها يظهر واضحا في الابحاث الكلاسيكية التي اعتمدت المنهج المقارن في البحث عن الجذور التاريخية والاسطورية والادبية لملاحم هوميروس وهيسيود وغيرها. كما اتبع باحثوا الاديان والاساطير المنهج التاريخي المقارن في دراساتهم للأصول القصصية في الكتاب المقدس لمعرفة مدى تأثرها بالحوادث الواردة في "ملحمة كلكامش". كما ان تطور منهجيات الادب المقارن المعني بقضايا "التناظر" بين مختلف الاعمال الادبية والفلسفية لشعوب مختلفة شجع بعض الباحثين في مجال الفلسفة على دراسة التناظر بين المضمون الفلسفي لـ "ملحمة كلكامش" و "مأدبة" افلاطون. و قام بعض علماء الانثروبولوجيا بقراءة بنيوية للملحمة مؤكدين على انها تعبير عن مبدأ التعارض بين الطبيعة والثقافة. وهناك ايضا من ينظر الى الملحمة على انها تنطوي على الاسس الدينية والفلسفية التي اعتمدها نيتشه في تفسيره لنشوء التراجيديا اليونانية.
أثر ملحمة كلكامش في الثقافة اليونانية القديمة
ظل الباحثون الغربيون ينظرون الى ملاحم هوميرس وهيسيود على انها نتاج متميز للثقافة اليونانية؛ وكانوا يعتقدون انه لاعلاقة لهذه الملاحم - سواء من حيث نشوئها، او اشكالها، او موتيفاتها، او مضامينها، او اساليبها - بثقافة الرافدين القديمة. وكانت حجة هؤلاء الباحثين انه لم يكن هناك اي تفاعل بين اليونان القديم وشعوب الرافدين او سورية الطبيعية خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. هذه النظرة التي تتسم احيانا بالتعصب لمصادر الثقافة الغربية وتارة بالاحتقار لثقافات الشعوب الشرقية وصفها الباحث الالماني الشهير ولتر بيركيرت -- في ندوة ضمت مختصيين في الادب اليوناني القديم وذلك عام 1982 بمدينة ستوكهولم-- قائلا: " حتى الآن يعتبر الاستفسار عن الاثر الذي تركه الفن الشرقي للكتابة على الالياذة والاوديسا ضرب من الهرطقة ". أي لازال هناك من يعتقد ان عظمة الأدب اليوناني القديم تكمن في احادية مصدره اليوناني. وهنا يحضرني ما قاله كارل ثومبسن عن الطريقة التي يفهم فيها بعض الباحثين الادب اليوناني القديم: " غالبا ما توصف الثقافة الرائعة لليونان القديم بأنها معجزة انبثقت عن عبقرية خاصة بها ولا تدين بشيء لجاراتها ". ولكن هذا التشنج اخذ يتلاشى تدريجيا على اثر الحفريات الحديثة التي تؤكد ان انتشار "ملحمة كلكامش" لم يكن محصورا في ارض الرافدين، بل انتشرت في معظم كيانات سورية الطبيعية وآسيا الصغرى، اذ عثر على نسخة من الملحمة في ارشيف العاصمة الحثية في اناتوليا مكتوبة بالاكادية السامية. وكانت الملحمة قد ترجمت(حوالي 1350-1300) ايضا الى اللغات الحورية و اللغة الحثية التي هي هندو-اروبية. كما عثر على جزء صغير من الملحمة، وهو في غاية الاهمية، في منطقة مجيدو بفلسطين يشير الى وجود نسخة كنعانية او فلسطينية متأخرة. أما حفريات رأس شمرا(اغاريت القديمة)في الساحل السوري فقد كشفت النقاب عن قصة الطوفان التي يعتقد انها اشتقت من قصة الطوفان التي تشكل جزءا" من "ملحمة كلكامش". فمعظم الترجمات القديمة للملحمة كانت قد انتشرت في مناطق مختلفة من اسيا الصغرى(بما في ذلك اليونان) قبل ظهور هوميروس وهيسيود بما لايقل عن اربعمائة سنة.
الأمر الذي التبس على الباحثين الغربيين الذين يدرسون الاشكال الادبية وتقنياتها وخصائصها يكمن في انهم لم يميزوا بين المثاقفة التي قد يتعرض لها شعب في مرحلة بحيث تترك تأثيرها على تصوره لذاته وعالمه والهته وهو غير واع لها لأن ثقافته تمثلتها واعتبرتها جزءا من تراثه، وبين التأثير المباشر الذي قد يتركه تيار فكري او سياسي او ادبي على جيل من المثقفين او الكتاب. ليس "لملحمة كلكامش" تأثير مباشر على هوميروس وهيسيود شخصيا، بل على الثقافة اليونانية التي كونت، تاريخيا، المخزون الادبي والديني والاسطوري الذي منه انتهل كل من هوميروس و هيسيود المواد اللازمة لصياغة ملاحمهم. بمعنى آخر، ان المواد الاسطورية اليونانية، قبل ان تأخذ شكلها الملحمي عند هوميروس و هيسيود، كانت قد تشربت بعض خصائص ادب الرافدين. فتأثر هوميروس و هيسيود بـ "ملحمة كلكامش" هو غير مباشر وغير واع، هو تأثر بتراث يوناني متشرب لثقافة الشرق الاوسط القديم.
فانتشار الملحمة الواسع في مناطق جغرافية متعددة من آسيا الصغرى والعثور على ترجمات مختلفة
لـ "كلكامش "حمل الكثير من الباحثين على اعادة النظر في مسألة التفاعل الثقافي بين اليونان القديم والشرق الاوسط، وحثهم اكثر على متابعة الدراسات المقارنة لاستجلاء أوجه الشبه او التناظر بين ملحمة الرافدين والتراث الملحمي لليونان القديم، وهذا ايضا وفر لهم امكانية تحديد الاطار التاريخي والثقافي الذي احتضن عملية تفاعل تلك الثقافات. وتبلورت نتائج هذه المحاولات، التي ظهرت منذ الستينات، في اعمال العديد من الباحثين امثال وبيستر، و ولكوت، و لورد، و كريسيث، و ويست و بيركيرت، وغيرهم. وخلص هؤلاء الباحثون الى ان تأثيرات ادب الرافدين تجلت في التناظر القائم بين رسم سمات بعض الآلهة، و سيكولوجية بعض االشخصيات الملحمية، و سياق بعض الاحداث، واساليب شعرية اتبعت في ملحمة كلكامش وملاحم هوميروس.
يؤكد البيرت لورد، الباحث الاميركي الشهير بدراساته عن الفولكلور والادب الملحمي، ان "ملاحم الشرق الاوسط القديمة كانت معروفة لليونان المعاصرين لـ هوميروس، او كان لها تأثير على اليونان قبل هوميروس". ويشير لورد الى اوجه الشبه بين "كلكامش" و "الالياذة" قائلا: في "ملحمة كلكامش" يتحدى كلكامش و انكيدو ما حرمته الآلهة، وان قرار الآلهة في القضاء على انكيدو وليس على كلكامش يتكرر في الياذة هوميروس حيث تقضي الالهة على صديق البطل. وهناك تناظر آخر بين كلكامش و آخيل اليوناني، اذ ان كل من البطلين ثلثاه اله والثلث الآخر انسان. ويشدد لورد على تشابه في الروح بين الملحمتين من حيث خاتمتيهما المسالمتين: اي قبول كلكامش بفشله في اكتناه سر الخلود وقبول آخيل لـ برايم. وآخيل، مثل كلكامش، يصارع رهبة الفناء، وفي النهاية يذعن له.
أما ثومس وبيستر فيشير الى ان العلاقة بين الآلهة والابطال القدماء تشف عن عدد من المواقف المشتركة بين الشعر الشرقي واعمال هوميروس. ويرى تناظر بين المجالس الالهية في "ملحمة كلكامش" و "الالياذة" و الاوديسا". ويلفت وبيستر، مثلا، النظر الى تناظر بين قتال كلكامش مع الوحش همبابا و ثور السماء وقتال هرقل و بيرسوس ضد الغرغونة. ويتفق وبيستر و ولكوت على ان التناظر بين الاساليب الشعرية في ملحمتي هوميرس و ملحمة "كلكامش"، لاسيما في استعمال الصفات المتعددة عند ايراد اشياء او احداث جديدة. عندما يموت انكيدو، مثلا، يرثيه كلكامش قائلا: "مثل اسد رفع صوته، ومثل لبوءة حرمت من شبلها". ويذرع كلكامش المكان جيئة وذهوبا قرب سرير صديقه. ويناظر هذا المشهد - في الالياذة - آخيل الذي يعد مأتما" لصديقه. ففي الوقت الذي يندب الآخيون بتروكلس، يبدأ آخيل الرثاء، واضعا يديه المجرمتين على صدر صديقه وهو يئن بعمق مثل: "أسد ملتحي سرق الصياد اشباله". يصف وبيستر هذا التناظر بين الاستعارتين بانه مدهش للغاية. اما التناظر بين العلاقتين المزدوجتين بكل من كلكامش و آخيل فهو اكثر اذهالا: آخيل هو البطل الوحيد، في "الالياذة"، الذي لايمكن تصوره بدون امه وصديقه، وهذا يماثل علاقة كلكامش بامه و انكيدو. يميل وبيستر الى الاعتقاد بان هذه العلاقة المزدوجة التي اوحت بها "ملحمة كلكامش " قد تم اقتباسها في مرحلة مبكرة للغاية، اي قبل ظهور هوميروس
ولعب جيرالد كريسيث، الباحث الاميركي، دورا هاما في الكشف على العلاقة بين "ملحمة كلكامش" وملاحم هوميروس. يقارن كريسيث شخصية أتونابشتم(في ملحمة كلكامش) بشخصية السينوس في "الاوديسا"، كاشفا النقاب عن تناظر في رسم الشخوص ومنحى الاحداث. مثلا: يعيش السينوس في جزيرة نائية مع زوجته والملكة أريث. و السينوس، مثل اوتونابشتم، هو كائن ازلي. كما ان لدى السينوس و اوتونابشتم اداة نقل لاعادة الأموات الى اوطانهم، ويتم هذا في الملحمتين عبر قارب سحري. أم جزيرة اوتونابشتم وكذلك جزيرة السينوس فلا يمكن الاقتراب منهما الا بعد اجتياز مياه خطيرة وصعبة، ونجد البطلين - كلكامش و اوديسيوس - يصلان كل الى جزيرته بعد ان نال منهما التعب و ينامان في الحال رغم تحذير اوتونابشتم لـ كلكامش وتنبيه السينوس لأوديسيوس. ويورد كريسيث اوجه شبه اخرى كرمي انكيدو لفخض الثور في وجه عشتار الذي يناظر الجرح الذي يحدثه ديوميديس لأفروديت، الهة الحب في الاوديسا. ومثلما تهدد عشتار أنو - اله السماء - باطلاق سراح الاموات، هكذا تضغط هيليوس - في "الاوديسا"- على زوس مهددة بأنها ستهبط الى عالم الأموات وتنشر النور بينهم. ان هذا التناظر بين "ملحمة كلكامش" و ملاحم هوميروس ليس وليد الصدفة، بل يدل على تأثر ثقافة اليونان القديمة بثقافة الرافدين البابلية والاشورية المنتشرة بين شعوب آسيا الصغرى التي كانت قد عرفت "ملحمة كلكامش " عبر ترجمات حثية وحورية وعلامية.
"ملحمة كلكامش و "مأدبة" افلاطون
قد لانجد تعليلا تاريخيا او ثقافيا للتناظر القائم بين النظرة الفلسفية التي تنطوي عليها "مأدبة" افلاطون
و "ملحمة كلكامش". وايراد الشبه بين هذين العملين لايعني مطلقا أن ملحمة الرافدين أوحت لأفلاطون بكتابة "المأدبة" أو ما تنطوي عليه من مقولات فلسفية. والتناظر هنا لايعني بالضرورة انه حصيلة تفاعل او انفعال عمل بآخر. كان جورج هيلد، استاذ الفلسفة في جامعة نيواورلينز، اول من لفت النظر الى التناظر بين هذين العملين. يعتقد هيلد ان الفكرة الاساسية وراء "ملحمة كلكامش" تكمن في ان الانسان قادر على تطوير نفسه وتحقيق طبيعته ليحصل على سعادة حقيقية، وذلك عبر التزامه بالفضيلة والبحث عن المعرفة، وليس السعي وراء المتعة. هذا ويرى هيلد ان الحب(EROS) في "ملحمة كلكامش" و "المادبة" هو قوة بامكانها ان تحول وتطور طبيعة الانسان. ويجد هيلد في ملحمة الرافدين بذور نظرة "اخلاقية غائية" مماثلة "لعملية الخطوات الثلاث للتطور" الواردة في "مأدبة" افلاطون. والاطوار الثلاث في "المأدبة" هي كما يلي: الطور الحسي(ينطوي على اللذة)، والطور العملي، والطور الفلسقي. ويؤكد هيلد ان هذه الاطوار الثلاث عند افلاطون تتجلى واضحة في سياق تطور احداث "ماحمة كلكامش". ففي بداية الملحمة يعيش كلكامش حياة تقوم على اللذة. يضاجع فتيات مدينة اوروك، الامر الذي يثير عداء وكره الشعب له. فالبداية تمثل اشكال الحب الدنيا. أما بعد لقاءه بـ انكيدو فيتبنى حياة عملية، يشرع في اتباع الفضيلة والبحث عن الشهرة من خلال القيام بالاعمال. وفي النهاية، حين يرهب موت انكيدو وبالتالي حتمية موته هو، يتبنى حياة ليست فلسفية فعليا"، ولكن تولد لديه النتائج اللازمة لحياة فلسفية، أي الحكمة والمعرفة. ونجد، مثلا، في رفض كلكامش لطلب عشتار(القائم على مبدأ اللذة) رفض لحياته السابقة ودليل على تقدم خلقي، لاسيما، بالمقارنة مع اشكال الحب الدنيا التي تجاوزها. ويرى هيلد ان رفض كلكامش لـ عشتار يماثل في شكله ووظيفته رفض سقراط لـ السبياديس في "المأدبة".
"ملحمة كلكامش" و بنيوية ليفي شتراوس
في فصل مطول من كتابه "الأسطورة: معناها ووظائفها في الثقافات القديمة وغيرها" يقوم ج.اس. كيرك -عالم الاساطير و الآداب اليونانية - بقراءة جديدة لـ "ملحمة كلكامش"، مستفيدا من معطيات المنهجية البنيوية لدى ليفي شتراوس. ينطلق كيرك في تحليله للملحمة من مقولة التناقض بين الطبيعة والثقافة التي صارت احدى أهم الاسس التي اعتمدها التحليل البنيوي، والتي على ضوئها درس ليفي شتراوس ثقافة هنود البرازيل وغيرها. يعتقد كيرك ان العلاقة بين الطبيعة والثقافة ليست غير محتملة بالنسبة لشعوب الرافدين، لاسيما ما دامت اساطيرهم تؤكد على التباين بين الارض المروية والارض القاحلة والآلهة المسؤولة. واذا كان الامر كذلك، يقول كيرك، عندها تكون علاقة الطبيعة-الثقافة قد بدأت تظهر ذاتها كواحدة من اكثر الاهتمامات العالمية والمركزية للاساطير التأملية، الى جانب قضايا الحياة والموت، والعلاقة القائمة بين انواع البشر والحيوان والخصب الزراعي.
وفي تعليقه على بعض التفسيرات والتحاليل لنص الملحمة، يقول كيرك ان "ملحمة كلكامش" هي قصيدة مذهلة وينبغي ان تقرأ وتدرس بعناية من قبل كل دارس للثقافة اليونانية. ويؤكد كيرك على اهمية دراسة الملحمة لذاتها لأنها تذكرنا، بكل بوضوح، بما لم تعنى به الميثولوجيا واللآداب اليونانية. وعلى الرغم من قصر هذه الملحمة - بالمقارنة مع ملاحم هوميرس و هيسيود - الا انها تثير بطريقة واضحة للغاية ومؤثرة اهم الاسئلة عن الحياة والموت. وعلى صعيد آخر، تشكل الملحمة قصة تتميز بالتنوع والفتنة، وتليت بحدة وحيوية درامية. وفوق كل ذلك، حافظت هذه الملحمة، رغم تاريخها الادبي الطويل، على هالة اسطورية حافلة بذلك النوع من الاستكشاف العاطفي لمعاني الحياة الدائمة التي فشلت الاساطير اليونانية ان تقدم نموذجا لها. ويستطرد كيرك قائلا: تمثل الملحمة، من خلال شخصية اسطورية، مواقف متعددة من الموت يمكن ان يتبناها البشر. فالقبول النظري بالموت قد تحطم كليا عند أول معرفة به من خلال فقدان شخص محبوب.وهناك ايضا الاشمئزاز من بشاعة تفسخ الجسد، والرغبة في تخطي الموت المتعلق بحياة الانسان ذاته، وذلك بواسطة الشهرة، او بتخيل الانسان نفسه خالدا. وفي النهاية كان هناك نوع من الاذعان، ولكن قبل ذلك كان هناك ايضا محاولة لتأخير مسيرة الموت بمحاكاة الصبا.
يعتقد كيرك ان العنصر الذي لم يشار اليه هو انكيدو كانسان متوحش من الصحراء. ان احدى الاهتمامات الاساسية لهنود البرازيل كانت تلك العلاقة بين الطبيعة والثقافة، بين المدجن والبري، بين الني والمطبوخ، والتناقضات والمفارقات التي عملت ما بين هذه التطرفات. أنا اعتقد، يقول كيرك، ان "ملحمة كلكامش" في شكلها الآكادي المتطور تعنى، الى حد ما، بتحري - شعوري او لاشعوري - لمبدأ تناقض الطبيعة -الثقافة. ان التناقض والتصارع بين نمطين للحياة، واحد تابع للصحراء وآخر تابع للارض المزروعة، يتخلل كل تاريخ الشرق الادنى. والعلاقة بين الطبيعة والثقافة لم تكن غير محتملة لسكان الرافدين، لأن اساطيرهم تركز على الفرق بين الارض القاحلة والارض الخصبة، كما تركز على الآلهة المسؤولة.
يدرس كيرك الملحمة منتقيا تلك العبارات والافعال التي تشير الى التناقض بين الطبيعة والثقافة من خلال انكيدو ونظيره كلكامش. لقد تم التوكيد - اولا - على ان انكيدو قد خلق في سهل خال من الاشجار، وجسمه مكسو بشعر خشن كالحيوان، يعيش كالحيوان، يأكل ويشرب كالحيوانات. الا انه - بطرق معينة - يتصرف بشكل اذكى من الحيوانات، اذ يمزق المكايد التي ينصبها الصيادون لبعض الحيوانات. اذن رغم ان انكيدو هو انسان، فهو ايضا نقيض للانسان ولافعاله. ثم تأتي البغي التي تدله، ليس فقط على الجنس الذي تستطيع الحيوانات ايضا ان تمارسه، بل الى المأوى، والجماعة، والثياب، والطعام المطبوخ، والشراب وكل فوائد الثقافة. وحين يفشل في اللحاق بحيونات البرية التي رفضته، تواسيه البغي، مؤكدة على انه صار الان مثل اله. في كل هذا ثمت انقلاب في الادوار : في الصحراء يرفض انكيدو الحيوانات ويصير حكيما كاله، بينما في المدينة، كلكامش الملك الذي يجب ان يتصرف كحكيم، يتصرف كحيوان متوحش. وفي ذات الوقت يثبت انكيدو انه قد نسي مكان ولادته وياخذ باستخدام السلاح - احد رموز الثقافة - في مطاردة واصطياد الاسود والذئاب لكي يتمكن الرعاة ومربوا المواشي من العيش بسلام. أما كلكامش - فلكي يتمكن من تحقيق الشهرة ويقهر الموت - فينتقل من الثقافة(المدينة) الى برية الجبال ليقضي على خمبابا البدائي وليجلب شجر الارز الى اروك.
ويستطرد كيرك قائلا: يلعن انكيدو ثلاث ادوات تسببت في سقوطه: البوابة، والصياد، والبغي. اثنتان من هذه الادوات ترتبطان بانتقاله من الطبيعة الى الثقافة. ويعلل كيرك ان انكيدو واثق ان السبب الرئيسي لموته كامن في انتقاله من الطبيعة(البرية) الى عالم الثقافة(المدينة). لقد كان انكيدو يحتقر الموت عبر المرض والموات بحد ذاته. ويحتمل أن يكون المرض مرتبطا بالثقافة، لذلك لعن انكيدو البغي والصياد لأنهما جاءا به الى المدينة، الى عالم المرض والموت البطيء، بعيدا عن البرية حيث يأتي الموت فجأة قبل الشيخوخة والفساد(اي ان الانسان في البرية هو في صراع مع عوامل الطبيعة والحيوانات). وسواء كان كلكامش يأمل بالاحتفاظ بصديقه أم لا، لتعزيز روابطه بالثقافة، فهو في النهاية يستجيب للواقع بالانتقال الى عالم الطبيعة، رافضا الثقافة كليا. وتتسم افعال كلكامش بالتطرف: كلكامش الذي هو تجسيد للثقافة يرفض عالم الثقافة ويجول في البرية كالحيوان، ليس فقط كحيوان بل ملتحفا جلد حيوان البرية ايضا. وفي عودة كلكامش الى اروك، بعد ان استحم ولبس الثياب النظيفة، اشارة ليس فقط لقبوله بالموت، بل اشارة الى انه لايجوز ان تلام الثقافة بسب المرض ونواحي الفناء الاخرى. او ان الانسان، على الاقل، غير قادر على تجنب المرض والفناء الملازمين للثقافة. كما انه لامبرر لدى الانسان ان يغير حياته كما فعل كلكامش اثناء بحثه عن سر الخلود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق