بران
Facebook © 2014
آخر الأخبار
الملحمة الحسينية بين الرواية وخشبة المسرح
حيدر حسين سويري
حيدر حسين سويري
بعد سقوط النظام العبثي الدكتاتوري في العراق، ظهرت لدي المجتمع العراقي أو (بتعبير آخر) أُعيدت إلى الحياة ظاهرة العرض المسرحي القديم.
في محرم الحرام من كل عام، وتحديداً في يوم عاشوراء، التي أصبحت تعرف بعاشوراء الحسين(عليه السلام)، تشهد الساحات والملاعب الرياضية، ظاهرة قديمة، هي العرض المسرحي للملحمة الحسينية – كربلاء – أو ما تُعرف بوقعة الطف الأليمة، حيث يقوم أُناس من محبي هذه الشخصية العظيمة بتجسيد أدوار جيشي المعركة، ويرتبون ديكور الساحة – المسرح – ويلبسون الملابس العسكرية القديمة، من الدروع الجلدية والأسلحة القديمة، ثم يبدء العرض الصامت.
يجلسُ على مقربةٍ منهم شيخ (مله)، يقوم بقراءة الملحمة، كأنهُ مخرجاً للعرض المسرحي، فالممثلون يتحركون وفق قراءته لدور الشخصية، أما الجمهور، فيكون على شكل منحني مغلق حول المسرح(ساحة العرض)، وبالرغم من كثافة الجمهور، وعدم تنظيم جلوسه، لكنه ينتظم بمجموعتين كبيرتين، واحدة للنساء واخرى للرجال، وبصورة متقابلة تقريبا.
في أحدى تلك العروض، حيثُ كنتُ حاضراً، إتخذتُ مكاناً يطلُ على الممثلين والجمهور معاً، وأراقب ما يحدث؛ بدء العرض، وبدء (المله) بقراءة الملحمة، وبدء أصحاب أدوار صحابة الإمام بالنزول إلى ساحة العرض(المعركة)، فقد أتقنوا أدوارهم جيداً، تساقطوا شهداءً الواحد تلو الآخر، وكنتُ أنظر إلى الجمهور، كان بعضٌ منهم قد سالت عيناه دمعاً، لكنَّهُ رابط الجأش، ولم يشرع بالعويل والبكاء بعد، حتى بدء نزول أصحاب أدوار أهل بيت الحسين(عليه السلام).
بدأ الجمهور يزداد حماساً وإنتباها، وبدأت الرقاب ترتفع، فأخذ بعض الجمهور بلطم صدره بيده، حتى لم يبقَ من جيش الحسين(عليه السلام) سوى أخيه العباس الملقب بـ(حامل اللواء) و(ساقي عطاشا كربلاء)، وما أن تحرك الممثل، الذي ركب حصاناً أبيضاً، وتوشحَ باللون الاخضر، وهو صاحب شكل جميل وجذاب، متجهاً صوب الماء(المشرعة)، حتى صاحت إحدى نساء الجمهور، وبصوت عال (فزع عباس طشر خيل الأعده)، وصاحت بقية النسوة مرددةً وراءها وكأنهن يشجعنه، فأخذ الممثل يميل بحصانهِ، ويغيرُ على الجيوش، كأنه نسي الدور بالذهاب إلى المشرعة، فأنتبه إليه (المله)، وأخذ يردد (وإتجهَ العباس صوب المشرعة)، فإنتبه الممثل وعاد إلى المشرعة، فإحتوشتهُ الجيوش حتى سقط صريعاً، في مشهدٍ بطوليٍ لأحد أنواع المقاومة الشرسة، من أجل الوصول إلى الهدف، وهو جلب الماء إلى خيام أولاد النبي.
عندها وقف الحسين(عليه السلام)، وحيداً فريداً، صاحت نفس المرأة، وبصوت عال:(عباس إنهض يابو الغيرة)، فضج الجمهور بالعويل والبكاء، وهم يرددون عبارة تلك المرأة، كأنهم يرونه لازال حيا، يرقبوه للنهوض ونصرة الحسين(عليه السلام)، لكنَّ المذهل بالامر، حين بدء (المله) يصيحُ مردداً: فدنت الجيوش وأحاطت بالحسين(عليه السلام) مكرراً العبارة، لم يستطيع ممثلوا أدوار الجيش الأموي من الإقتراب، بل ألقوا بإسلحتهم، وأخذوا يلطمون الصدور، ويضربون الرؤوس، ويبكون وينحبون، وكذلك كان حال الجمهور، ولم ينفع كلام(المله) المتكرر، وأمرهُ بإنهاء المشهد، حتى قال: (أكملو بارك الله فيكم، أكملوا عظم الله أجوركم)، فدنى من تشبيه الحسين(عليه السلام) بعض الجنود، فصاح(المله) وهو يريد إنهاء المشهد: فسقط الحسين صريعاً، وبعدُ لم يسقط الممثل، حتى هجم الجمهور متجها صوب تشبيه الحسين(عليه السلام)، وهو يظنه الحسين(عليه السلام) بلحمه ودمه، وهم ينادون: لبيك ياحسين، وكادت أن تعم الفوضى المكان إلا أن(المله) كان ذكياً، ومسيطراً على أعصابه، أراد أن يحافظ على سلامة الجمهور، وتنبيهم، فبدء بقراءة إحدى القصائد الشعرية الرثائية(اللطمية)، بعد أن صلى على النبي وآله، فإستفاق الممثلون والجمهور، ورتبوا أنفسهم على شكل دوائر وبدأوا بالترديد واللطم على الصدور.
والصراحة أقول: لقد إحترت في تفسير ما حصل! فلطالما قرأنا وسمعنا قصة مقتل الحسين(عليه السلام) وكان أشد من يتاثر فيها، تسيل عيناه دمعاً، فلماذا حصل هذا ياترى!؟
فسرت ذلك، بأن للصورة المتحركة والمسرح بالخصوص، الذي يجسد المأساة تاثيراً في النفوس، أكثر وأعمق من بقية صور الدراما، كذلك وإن إقتراب الشخصية من واقع الممثلين والمشاهدين، تثير وتدفع إلى إندماج كامل في الملحمة، لذلك سعى الناس إلى أن لا يروا الحسين(عليه السلام) مقتولاً، فلم ينتظروا سقوط الممثل، لأنهم لا يريدون ذلك البتة.
هناك رأي جميل لابد من ذكره :
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي ــ شارحاً لأرسطو ــ بأن: «للمأساة [التراجيديا] غاية واضحة، هي تطهير النفس، من الانفعالات العنيفة: إذ المحاكاة في المأساة ترمي إلى إثارة الرحمة والخوف، وبهذه الإثارة تخلص النفس من آثار الانفعالات السيئة، وفقاً لقاعدة: وداوني بالتي كانت هي الداءُ».
ويحدث التطهير، في التراجيديا ــ رغم أن النهاية في الغالب تكون غير سعيدة ــ حين يتماهى الممثل في الشخصية؛ ويندمج المشاهد في المسرحية، فتنهار خشبة المسرح، وتزول من الوعي، ويقتنع كل من الممثل والمشاهد بأنهما أمام حدث حقيقي. فيتوحدان بالشخصية، ويتألمان بألمها. لكن المسرحية لا بد أن تنتهي آخر الأمر، فيخرج المشاهد والممثل وقد تنفس كل منهما الصعداء، لاكتشافهما أن ما استثارهما كان غير حقيقي. ويقول علم النفس إن السبب في هذه الاستثارة ــ التي حدثت للمشاهد أو للممثل ــ راجع إلى كون الحدث الذي دار على المسرح، إنما هو يشبه، أو يقارب، مواقف قد حدثت له فعلاً. ومن ثم فإن هذا الحدث يستثير لديه ذكريات انفعالية معينة سابقة. أي أن المقصود هنا، هو أن الدراما لا تخلق بعض المحن أو الكروب الانفعالية الجديدة، بل إنها تعيد إلى الحياة، أو تجدد، ظهور بعض الكرب أو المحن القديمة، ولكن في ظل ظروف آمنة نسبياً.(مقال لخضر محجز – الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 محور الادب والفن)
في محرم الحرام من كل عام، وتحديداً في يوم عاشوراء، التي أصبحت تعرف بعاشوراء الحسين(عليه السلام)، تشهد الساحات والملاعب الرياضية، ظاهرة قديمة، هي العرض المسرحي للملحمة الحسينية – كربلاء – أو ما تُعرف بوقعة الطف الأليمة، حيث يقوم أُناس من محبي هذه الشخصية العظيمة بتجسيد أدوار جيشي المعركة، ويرتبون ديكور الساحة – المسرح – ويلبسون الملابس العسكرية القديمة، من الدروع الجلدية والأسلحة القديمة، ثم يبدء العرض الصامت.
يجلسُ على مقربةٍ منهم شيخ (مله)، يقوم بقراءة الملحمة، كأنهُ مخرجاً للعرض المسرحي، فالممثلون يتحركون وفق قراءته لدور الشخصية، أما الجمهور، فيكون على شكل منحني مغلق حول المسرح(ساحة العرض)، وبالرغم من كثافة الجمهور، وعدم تنظيم جلوسه، لكنه ينتظم بمجموعتين كبيرتين، واحدة للنساء واخرى للرجال، وبصورة متقابلة تقريبا.
في أحدى تلك العروض، حيثُ كنتُ حاضراً، إتخذتُ مكاناً يطلُ على الممثلين والجمهور معاً، وأراقب ما يحدث؛ بدء العرض، وبدء (المله) بقراءة الملحمة، وبدء أصحاب أدوار صحابة الإمام بالنزول إلى ساحة العرض(المعركة)، فقد أتقنوا أدوارهم جيداً، تساقطوا شهداءً الواحد تلو الآخر، وكنتُ أنظر إلى الجمهور، كان بعضٌ منهم قد سالت عيناه دمعاً، لكنَّهُ رابط الجأش، ولم يشرع بالعويل والبكاء بعد، حتى بدء نزول أصحاب أدوار أهل بيت الحسين(عليه السلام).
بدأ الجمهور يزداد حماساً وإنتباها، وبدأت الرقاب ترتفع، فأخذ بعض الجمهور بلطم صدره بيده، حتى لم يبقَ من جيش الحسين(عليه السلام) سوى أخيه العباس الملقب بـ(حامل اللواء) و(ساقي عطاشا كربلاء)، وما أن تحرك الممثل، الذي ركب حصاناً أبيضاً، وتوشحَ باللون الاخضر، وهو صاحب شكل جميل وجذاب، متجهاً صوب الماء(المشرعة)، حتى صاحت إحدى نساء الجمهور، وبصوت عال (فزع عباس طشر خيل الأعده)، وصاحت بقية النسوة مرددةً وراءها وكأنهن يشجعنه، فأخذ الممثل يميل بحصانهِ، ويغيرُ على الجيوش، كأنه نسي الدور بالذهاب إلى المشرعة، فأنتبه إليه (المله)، وأخذ يردد (وإتجهَ العباس صوب المشرعة)، فإنتبه الممثل وعاد إلى المشرعة، فإحتوشتهُ الجيوش حتى سقط صريعاً، في مشهدٍ بطوليٍ لأحد أنواع المقاومة الشرسة، من أجل الوصول إلى الهدف، وهو جلب الماء إلى خيام أولاد النبي.
عندها وقف الحسين(عليه السلام)، وحيداً فريداً، صاحت نفس المرأة، وبصوت عال:(عباس إنهض يابو الغيرة)، فضج الجمهور بالعويل والبكاء، وهم يرددون عبارة تلك المرأة، كأنهم يرونه لازال حيا، يرقبوه للنهوض ونصرة الحسين(عليه السلام)، لكنَّ المذهل بالامر، حين بدء (المله) يصيحُ مردداً: فدنت الجيوش وأحاطت بالحسين(عليه السلام) مكرراً العبارة، لم يستطيع ممثلوا أدوار الجيش الأموي من الإقتراب، بل ألقوا بإسلحتهم، وأخذوا يلطمون الصدور، ويضربون الرؤوس، ويبكون وينحبون، وكذلك كان حال الجمهور، ولم ينفع كلام(المله) المتكرر، وأمرهُ بإنهاء المشهد، حتى قال: (أكملو بارك الله فيكم، أكملوا عظم الله أجوركم)، فدنى من تشبيه الحسين(عليه السلام) بعض الجنود، فصاح(المله) وهو يريد إنهاء المشهد: فسقط الحسين صريعاً، وبعدُ لم يسقط الممثل، حتى هجم الجمهور متجها صوب تشبيه الحسين(عليه السلام)، وهو يظنه الحسين(عليه السلام) بلحمه ودمه، وهم ينادون: لبيك ياحسين، وكادت أن تعم الفوضى المكان إلا أن(المله) كان ذكياً، ومسيطراً على أعصابه، أراد أن يحافظ على سلامة الجمهور، وتنبيهم، فبدء بقراءة إحدى القصائد الشعرية الرثائية(اللطمية)، بعد أن صلى على النبي وآله، فإستفاق الممثلون والجمهور، ورتبوا أنفسهم على شكل دوائر وبدأوا بالترديد واللطم على الصدور.
والصراحة أقول: لقد إحترت في تفسير ما حصل! فلطالما قرأنا وسمعنا قصة مقتل الحسين(عليه السلام) وكان أشد من يتاثر فيها، تسيل عيناه دمعاً، فلماذا حصل هذا ياترى!؟
فسرت ذلك، بأن للصورة المتحركة والمسرح بالخصوص، الذي يجسد المأساة تاثيراً في النفوس، أكثر وأعمق من بقية صور الدراما، كذلك وإن إقتراب الشخصية من واقع الممثلين والمشاهدين، تثير وتدفع إلى إندماج كامل في الملحمة، لذلك سعى الناس إلى أن لا يروا الحسين(عليه السلام) مقتولاً، فلم ينتظروا سقوط الممثل، لأنهم لا يريدون ذلك البتة.
هناك رأي جميل لابد من ذكره :
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي ــ شارحاً لأرسطو ــ بأن: «للمأساة [التراجيديا] غاية واضحة، هي تطهير النفس، من الانفعالات العنيفة: إذ المحاكاة في المأساة ترمي إلى إثارة الرحمة والخوف، وبهذه الإثارة تخلص النفس من آثار الانفعالات السيئة، وفقاً لقاعدة: وداوني بالتي كانت هي الداءُ».
ويحدث التطهير، في التراجيديا ــ رغم أن النهاية في الغالب تكون غير سعيدة ــ حين يتماهى الممثل في الشخصية؛ ويندمج المشاهد في المسرحية، فتنهار خشبة المسرح، وتزول من الوعي، ويقتنع كل من الممثل والمشاهد بأنهما أمام حدث حقيقي. فيتوحدان بالشخصية، ويتألمان بألمها. لكن المسرحية لا بد أن تنتهي آخر الأمر، فيخرج المشاهد والممثل وقد تنفس كل منهما الصعداء، لاكتشافهما أن ما استثارهما كان غير حقيقي. ويقول علم النفس إن السبب في هذه الاستثارة ــ التي حدثت للمشاهد أو للممثل ــ راجع إلى كون الحدث الذي دار على المسرح، إنما هو يشبه، أو يقارب، مواقف قد حدثت له فعلاً. ومن ثم فإن هذا الحدث يستثير لديه ذكريات انفعالية معينة سابقة. أي أن المقصود هنا، هو أن الدراما لا تخلق بعض المحن أو الكروب الانفعالية الجديدة، بل إنها تعيد إلى الحياة، أو تجدد، ظهور بعض الكرب أو المحن القديمة، ولكن في ظل ظروف آمنة نسبياً.(مقال لخضر محجز – الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 محور الادب والفن)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق