قراءة في وجع أشيب .....وكفَ عذراء
الشاعر كريم عبد الله
وجعٌ أشيبٌ .... وكفٌّ عذراء
ذاهلٌ يغرقُ الصمت في بخارِ السواقي ـــ بينما العشب يحكُّ ظهر شهيقَ سحابة
الغَبَشاتُ لا تجفلُ فوقَ عيونِ القيظ ـــ لا نديمَ يشكو ظلمةَ تناثرِ الحلم
وجعٌ أشيبٌ يحتمي بغيمةٍ بعيدةٍ ../ شاحبةً تنكسفُ في راحةٍ عذراء ../ تغطُّ بأريجٍ يئنُّ بالهواجسِ ...
يتبخترُ عشقٌ يابسٌ يدنو ...../ نائحٌ في قميصِ كوّةِ أريكةِ الرملِ ../ يشمُّ يُتمَ سريرٍ يتهجّد ...
نثيثُ شظايا ممطرة بالشهواتِ ـــ ترشُّ على أعنّةِ الشوقِ بالعناق
طاعنةٌ هي الأحلام في ذاكرةِ اللوعةِ ../ يُفزعها كلَّ حينٍ قطار طافح بالطَلق ../ وفي مفترقِ التعثّرِ صدى الإجتياح
لِمَ المواعيدُ عقيمة كاللقاءِ ../ والنزفُ يغدو غيمةً حُبلى .../ والينابيعُ تتخثّرُ بِوَهَمِ الزمرّد .... ؟
القوافلُ تسرقها بوصلةَ السباتِ ../ على معاصمِ الطريق إنتفاضة أجنحةٍ مكسّرة ../ يحلمُ الرملُ برطوبةِ عطرِ الفساتين
حبالُ العيونِ شائكةُ حولَ السواحلِ ../ تنصتُ لا تتوبَ منْ لذّة التهيّجِ ../ ترضعُ ثديَ النادبات بالفجيعةِ
لا شيءَ يضجُّ على أبوابِ الريحِ ../ تتلوّى في مقابضِ شبابيكِ التخيّلِ ../ خواتم مغشوشة معقوفةً تنبشُ بأوهامها
لعلّ المرآيا على وشكِ التسلّلِ ../ تقبّلُ رفاتَ سنينٍ تنامُ على آهةِ الطريق ../ تهزهزُ ملامحاً مغبرةً يشيّعها الحنين
مرضوضةٌ تهتفُ الفوانيس ../ خلعتْ دخانها على جرحِ جمراتها ../ وأنسلّتْ في مياهِ الإنحدار تمسحُ شيخوختها ...
هلْ يمكثُ هذا الغدُ المبعثر كالبردِ ـــ ونعاسُ نوافذ الصيف يشقّقُ مواسمَ الغيوم .. ؟
وذاكَ الحلمُ البعيد بامطارِ الحنين ../ يُجاهدُ أنوثةً تهبطُ بآخرِ الخراب .. / ينبتُ قمراً يتوهّجُ في محطاتِ الندى ...
كريم عبد الله
.
لا يستعمل شاعر الوجع الأشيب الكلمات في أصل استعمالها المعجمي كما تمَ التواضع على دلالاتها ولكنه يتمثل الكتابة الشعرية عملا في اللغة انزياحا وعدولا بها عن ذلك الأصل المتواضع عليه
واستجابة لهذا التمشي وهذه الرؤية للكتابة يعمد الشاعر كريم عبد الله الى التقريب بين مجالات متباعدة ويقتصد مسافات بينها ويختزلها لابتكار معاني خاصة اذ الوجع من حقل دلالي مرتبط بالمعاناة وأثرها أما الشيب فمنحدر من حقل دلالي وثيق الصلة بأثر السنين وسيرورتها وصيرورة الفاحم في مقتبل العمر وفي أوجه الى شيب ومشيب في آخره ومنهاه وأنه لنذير النهاية ومقدمة من مقدماتها
ولئن اقترن الشيب بالوهن فان تواشجه بحقل الوجع يكسبه دلالات جديدة فيصبح
موحيا بما تعتَق وعتَق وأضحى أشد تأثيرا وأعمق أثرا ليكون وجعا حلب من الدهر أشطره بل انه صار تربه غلبة وقوة وهكذا يفارق الشيب معناه الأصلي وما ان اقترن بالوجع حتى تحوَل الى أمارة من أمارات سطوة الوجع وغلبته اذ استبد بصاحبه مرَة واحدة في فاعلية وقوة
وأما الكف العذراء وهي في تناظر مع الوجع الأشيب فتوحي باليد البيضاء والراحة المبسوطة لطالب الملجا والاحتماء وعادة ما يختزل النماء والعطاءفي كف عذراء بيضاء مطهرة من الأدران ومن ومن آثام الاستحواذ والاطباق على الرقاب اقتيادا واذلالا واحتواء
ترى هل سيظفر من استبد به وجع معتَق وأحاط به كل الاحاطة بالمستقر والمستودع ؟
للمرء قصص وحكايات مع الطبيعة وعناصرها وكل تجلياتها فلم تخل المدونة الشعرية القديمة من وقوف على أطلال وبقايا دبار عصفت بها رياح وأزرت بها و تلاعبت بمعمرات المكان حركة رمال بين جنوب وشمأل
ودأب الشاعر المتأمل على وقوف عند المكان القفر وقد أدرك عحزه ازاء فعل طبيعة مدمرة وكانت تلك وقفة على طلل المكان وحتى الزمان له وقفته الخاصة به تنسلها نظرة ارتدادية ارتجاعية للزمن وزمان الوصل وقد ولَى يستدعي وففة حنين عنده على شاكلة
جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
وأما فصيدة وجع أشيب ..وكفَ عذراء فلها وقفتها الخاصة بها
فالاطار طبيعي أحالت عليه كثافة حضور لمفردات تنحدر من سجل الطبيعة منها البخار والسواقي والعشب والسحابة والقيظ والغيمة ولكن المتأمل الذاهل المشدوه فقد كان جالسا عند الساقية وعند مياه كبريتية يتصاعد منها بخار فكأننا بها زفراته في عملية اسقاط للمشاعر على عناصر الطبيعة فتتلون بلون الذات في كل تجلياتها وكانت هذه الذات في احتدام داخلي جسَمته حركة البخار المتصاعد من السواقي وتصاعد هذا البخار وكل مكونات المشهد الطبيعي في حركة دائبة متواصلة تشي بها صيغة المضارع في استمراريتها وديمومتها فالعشب يحكَ ظهر شهيق سحابة
.وتزداد هذه الحركة اندفاعا واحتداما بحضور مفردات تنحدر من حقل دلالي موح بالحرارة واشتدادها كالقيظ والغبشات فالجالس على حافة السواقي المضطرمة لا يقل احتداما واضطرابا داخليا متصاعدا كما هو شأن سماء فضائه فهي تعجً حركة لصراع بين المعتم والشفاف بين سحاب ولا رطوبة تبشر بغيث يطفيء نار من صدي واشتدته علَته وغيمة ملأى ماء سلسبيل ارتواء ولكنها تمعن في التنائي وكأننا بها ضلت سبيلها وأسلمت لدرب التيه
وتتضاعف وحشة من جلس منتظرا متفكرا وتتكثف اذ لا نديم يشكو ظلمة تناثر الحلم
فقد كان الجالس عند السواقي المحتدمة بلا أنيس ولا صاحب قد يكون ممن ينشد الوحدة ويطلبها وفي أعماقه تتردد كلمات من عرف هول الرحيل وقال ذراني والفلاة بلا دليل ووجهي والهجير بلا لثام
ويستعير الشاعر من المسرح بعض تقنياته ومنها تقتيات الأضواء و يجعل الجالس عند السواقي يتضاءل حجمه ليختزل في صفة من صفاته فتسلط عليها الأضواء ولا ندركه الا في بعده هذا وتغيب عنا كل الأبعاد فاذا به وجع أشيب يطلب ماء به يطفيء نار اتقاده واضطرامه ولكن الغيمة بعيدة توارت وراء حجب انها شاحبةً تنكسفُ في راحةٍ عذراء
وتمعن الغيمة المنشودة في الاحتجاب وحجبها هواجس مربكة تحول دون تبرعم الحلم فقد احاطت هذه الهواجس بالأريج وزهرته ليكون الجمال المرجو َ رهين محبس
ومن براثن الهواجس الضارية يفلت عشق يابس بعد طول أسر وارتهان
ويسرع الخطى يتبخترُ عشقٌ يابسٌ يدنو طلبا لحضن من طال تهجده وقيام ليل الانتظار ومن تجليات شوقه العارم وانه بشوق فطري لن يعرف الأناة
والتوقف ان تسارع نسق حركة النص في اندفاع معبَر عن لهفة وتلهف وعن شوق بعد طول غياب
يشمُّ يُتمَ سريرٍ يتهجّد ...
نثيثُ شظايا ممطرة بالشهواتِ ـــ ترشُّ على أعنّةِ الشوقِ بالعناق
ولكن هذا الحلم المختلس عند الغلس كان شأنه شأن اي مطارد ما ان دنا حنى رحل او رحَل وزحزح عن مكانه وانتزع قهرا من بين أحضان منتظره ليمضي من جديد في درب التيه والتشرَد فبعد العناق افتراق قسرا وكرها لذا حضرت في النص عبارات موحية بتراجع معجم التلاقي والدنو لتحل محلها عبارات وجع القلع والاقتلاع من المنابت والجذور ويتصاعد دوي قطار الرحيل والايذان بالمغادرة والتولي
وتعقب أنس الاجتماع وحشة الافتراق والفراق بل ان الرحيل صاحبه نزف وعويل وللتعبير عن وطأته كان لزاما أن يتعير نسق الجملة وصيغتها ونمطها ليعلن التحول من التقرير الى الاستفهام المشرب تبرما وضيقا
لم المواعيدُ عقيمة كاللقاءِ ../ والنزفُ يغدو غيمةً حُبلى .../ والينابيعُ تتخثّرُ بِوَهَمِ الزمرّد .... ؟
ضيق الوجع والأنين بالتحول من أنس اللقاء الى وحشة التشرد وتسكن الحركة معلنة عن وهن دبَ بالاوصال
القوافلُ تسرقها بوصلةَ السباتِ ../ على معاصمِ الطريق إنتفاضة أجنحةٍ مكسّرة ../
والطائر لا يملك الا رقص مذبوج من الألم
وما أشد وجع انتفاضة أجنحة مكسرة
ومع ذلك لا يذوي الشغف ولا يسلم للهزيمة ويظل الحلم يجمجم بالأعماق ويكون الصراع على أشده بين نداء الوجود ومناوئيه وتحاول الأمنيات المحاصرة ايجاد منفذ لها وظلت تجاهد لفتح مقابض شبابيك التخيَل علًها تفتح نافذة منها ياتي بصيص الأمل ويدلف وظلَت في اندفاع وحركة متواصلة لتجد لها منفذا للواذ وللتطهر في منابع النور وتمسح شيخوختها وما علق بها من أدران ارض التيه ../ تتلوّى في مقابضِ شبابيكِ التخيّلِ ../ خواتم مغشوشة معقوفةً تنبشُ بأوهامها
لعلّ المرآيا على وشكِ التسلّلِ ../ تقبّلُ رفاتَ سنينٍ تنامُ على آهةِ الطريق ../ تهزهزُ ملامحاً مغبرةً يشيّعها الحنين
مرضوضةٌ تهتفُ الفوانيس ../ خلعتْ دخانها على جرحِ جمراتها ../ وأنسلّتْ في مياهِ الإنحدار تمسحُ شيخوختها
وهكذا تكون النهاية مفتوحة على احتمالات عدة اذ الاشكالية تظل مطروحة وتفتح آفاق انتظار كثيرة فى ترقب لقمر يتوهج في محطات الندى بعدما يجتاز
معتَق الوجع امتحان مغالبة الغد المبعثر كالبردِ
للفلات من ربقة مناهض الانبعاث من جديد وفي انتظار انبجاس مواسم الغيوم
واجمالا كانت قصيدة وجع أشيب ...وكفَ عذراء للشاعر العراقي الشغوف بالمسرح ودينامكيته كريم عبد الله منفتحة على مجالات ابداعية متعددة اذ انفتح النص الشعري على قوالب فنية اخرى ولا سيما المسرح واستعار منه مبدا الصراع ليقيم جدلا بين حركة النفس وتوقها للخصب والنماء والجمال واصتدامها بعوائق ومثبطات ويظل الصراع قائما والنهايات مقتوحة على أكثر من احتمال وما هذه النهاية المفتوحة الا دعوة للمتلقي لمشاركة الشاعر التفكير في ما به ينبتُ قمراً يتوهّجُ في محطاتِ الندى
الشاعر كريم عبد الله
وجعٌ أشيبٌ .... وكفٌّ عذراء
ذاهلٌ يغرقُ الصمت في بخارِ السواقي ـــ بينما العشب يحكُّ ظهر شهيقَ سحابة
الغَبَشاتُ لا تجفلُ فوقَ عيونِ القيظ ـــ لا نديمَ يشكو ظلمةَ تناثرِ الحلم
وجعٌ أشيبٌ يحتمي بغيمةٍ بعيدةٍ ../ شاحبةً تنكسفُ في راحةٍ عذراء ../ تغطُّ بأريجٍ يئنُّ بالهواجسِ ...
يتبخترُ عشقٌ يابسٌ يدنو ...../ نائحٌ في قميصِ كوّةِ أريكةِ الرملِ ../ يشمُّ يُتمَ سريرٍ يتهجّد ...
نثيثُ شظايا ممطرة بالشهواتِ ـــ ترشُّ على أعنّةِ الشوقِ بالعناق
طاعنةٌ هي الأحلام في ذاكرةِ اللوعةِ ../ يُفزعها كلَّ حينٍ قطار طافح بالطَلق ../ وفي مفترقِ التعثّرِ صدى الإجتياح
لِمَ المواعيدُ عقيمة كاللقاءِ ../ والنزفُ يغدو غيمةً حُبلى .../ والينابيعُ تتخثّرُ بِوَهَمِ الزمرّد .... ؟
القوافلُ تسرقها بوصلةَ السباتِ ../ على معاصمِ الطريق إنتفاضة أجنحةٍ مكسّرة ../ يحلمُ الرملُ برطوبةِ عطرِ الفساتين
حبالُ العيونِ شائكةُ حولَ السواحلِ ../ تنصتُ لا تتوبَ منْ لذّة التهيّجِ ../ ترضعُ ثديَ النادبات بالفجيعةِ
لا شيءَ يضجُّ على أبوابِ الريحِ ../ تتلوّى في مقابضِ شبابيكِ التخيّلِ ../ خواتم مغشوشة معقوفةً تنبشُ بأوهامها
لعلّ المرآيا على وشكِ التسلّلِ ../ تقبّلُ رفاتَ سنينٍ تنامُ على آهةِ الطريق ../ تهزهزُ ملامحاً مغبرةً يشيّعها الحنين
مرضوضةٌ تهتفُ الفوانيس ../ خلعتْ دخانها على جرحِ جمراتها ../ وأنسلّتْ في مياهِ الإنحدار تمسحُ شيخوختها ...
هلْ يمكثُ هذا الغدُ المبعثر كالبردِ ـــ ونعاسُ نوافذ الصيف يشقّقُ مواسمَ الغيوم .. ؟
وذاكَ الحلمُ البعيد بامطارِ الحنين ../ يُجاهدُ أنوثةً تهبطُ بآخرِ الخراب .. / ينبتُ قمراً يتوهّجُ في محطاتِ الندى ...
كريم عبد الله
.
لا يستعمل شاعر الوجع الأشيب الكلمات في أصل استعمالها المعجمي كما تمَ التواضع على دلالاتها ولكنه يتمثل الكتابة الشعرية عملا في اللغة انزياحا وعدولا بها عن ذلك الأصل المتواضع عليه
واستجابة لهذا التمشي وهذه الرؤية للكتابة يعمد الشاعر كريم عبد الله الى التقريب بين مجالات متباعدة ويقتصد مسافات بينها ويختزلها لابتكار معاني خاصة اذ الوجع من حقل دلالي مرتبط بالمعاناة وأثرها أما الشيب فمنحدر من حقل دلالي وثيق الصلة بأثر السنين وسيرورتها وصيرورة الفاحم في مقتبل العمر وفي أوجه الى شيب ومشيب في آخره ومنهاه وأنه لنذير النهاية ومقدمة من مقدماتها
ولئن اقترن الشيب بالوهن فان تواشجه بحقل الوجع يكسبه دلالات جديدة فيصبح
موحيا بما تعتَق وعتَق وأضحى أشد تأثيرا وأعمق أثرا ليكون وجعا حلب من الدهر أشطره بل انه صار تربه غلبة وقوة وهكذا يفارق الشيب معناه الأصلي وما ان اقترن بالوجع حتى تحوَل الى أمارة من أمارات سطوة الوجع وغلبته اذ استبد بصاحبه مرَة واحدة في فاعلية وقوة
وأما الكف العذراء وهي في تناظر مع الوجع الأشيب فتوحي باليد البيضاء والراحة المبسوطة لطالب الملجا والاحتماء وعادة ما يختزل النماء والعطاءفي كف عذراء بيضاء مطهرة من الأدران ومن ومن آثام الاستحواذ والاطباق على الرقاب اقتيادا واذلالا واحتواء
ترى هل سيظفر من استبد به وجع معتَق وأحاط به كل الاحاطة بالمستقر والمستودع ؟
للمرء قصص وحكايات مع الطبيعة وعناصرها وكل تجلياتها فلم تخل المدونة الشعرية القديمة من وقوف على أطلال وبقايا دبار عصفت بها رياح وأزرت بها و تلاعبت بمعمرات المكان حركة رمال بين جنوب وشمأل
ودأب الشاعر المتأمل على وقوف عند المكان القفر وقد أدرك عحزه ازاء فعل طبيعة مدمرة وكانت تلك وقفة على طلل المكان وحتى الزمان له وقفته الخاصة به تنسلها نظرة ارتدادية ارتجاعية للزمن وزمان الوصل وقد ولَى يستدعي وففة حنين عنده على شاكلة
جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
وأما فصيدة وجع أشيب ..وكفَ عذراء فلها وقفتها الخاصة بها
فالاطار طبيعي أحالت عليه كثافة حضور لمفردات تنحدر من سجل الطبيعة منها البخار والسواقي والعشب والسحابة والقيظ والغيمة ولكن المتأمل الذاهل المشدوه فقد كان جالسا عند الساقية وعند مياه كبريتية يتصاعد منها بخار فكأننا بها زفراته في عملية اسقاط للمشاعر على عناصر الطبيعة فتتلون بلون الذات في كل تجلياتها وكانت هذه الذات في احتدام داخلي جسَمته حركة البخار المتصاعد من السواقي وتصاعد هذا البخار وكل مكونات المشهد الطبيعي في حركة دائبة متواصلة تشي بها صيغة المضارع في استمراريتها وديمومتها فالعشب يحكَ ظهر شهيق سحابة
.وتزداد هذه الحركة اندفاعا واحتداما بحضور مفردات تنحدر من حقل دلالي موح بالحرارة واشتدادها كالقيظ والغبشات فالجالس على حافة السواقي المضطرمة لا يقل احتداما واضطرابا داخليا متصاعدا كما هو شأن سماء فضائه فهي تعجً حركة لصراع بين المعتم والشفاف بين سحاب ولا رطوبة تبشر بغيث يطفيء نار من صدي واشتدته علَته وغيمة ملأى ماء سلسبيل ارتواء ولكنها تمعن في التنائي وكأننا بها ضلت سبيلها وأسلمت لدرب التيه
وتتضاعف وحشة من جلس منتظرا متفكرا وتتكثف اذ لا نديم يشكو ظلمة تناثر الحلم
فقد كان الجالس عند السواقي المحتدمة بلا أنيس ولا صاحب قد يكون ممن ينشد الوحدة ويطلبها وفي أعماقه تتردد كلمات من عرف هول الرحيل وقال ذراني والفلاة بلا دليل ووجهي والهجير بلا لثام
ويستعير الشاعر من المسرح بعض تقنياته ومنها تقتيات الأضواء و يجعل الجالس عند السواقي يتضاءل حجمه ليختزل في صفة من صفاته فتسلط عليها الأضواء ولا ندركه الا في بعده هذا وتغيب عنا كل الأبعاد فاذا به وجع أشيب يطلب ماء به يطفيء نار اتقاده واضطرامه ولكن الغيمة بعيدة توارت وراء حجب انها شاحبةً تنكسفُ في راحةٍ عذراء
وتمعن الغيمة المنشودة في الاحتجاب وحجبها هواجس مربكة تحول دون تبرعم الحلم فقد احاطت هذه الهواجس بالأريج وزهرته ليكون الجمال المرجو َ رهين محبس
ومن براثن الهواجس الضارية يفلت عشق يابس بعد طول أسر وارتهان
ويسرع الخطى يتبخترُ عشقٌ يابسٌ يدنو طلبا لحضن من طال تهجده وقيام ليل الانتظار ومن تجليات شوقه العارم وانه بشوق فطري لن يعرف الأناة
والتوقف ان تسارع نسق حركة النص في اندفاع معبَر عن لهفة وتلهف وعن شوق بعد طول غياب
يشمُّ يُتمَ سريرٍ يتهجّد ...
نثيثُ شظايا ممطرة بالشهواتِ ـــ ترشُّ على أعنّةِ الشوقِ بالعناق
ولكن هذا الحلم المختلس عند الغلس كان شأنه شأن اي مطارد ما ان دنا حنى رحل او رحَل وزحزح عن مكانه وانتزع قهرا من بين أحضان منتظره ليمضي من جديد في درب التيه والتشرَد فبعد العناق افتراق قسرا وكرها لذا حضرت في النص عبارات موحية بتراجع معجم التلاقي والدنو لتحل محلها عبارات وجع القلع والاقتلاع من المنابت والجذور ويتصاعد دوي قطار الرحيل والايذان بالمغادرة والتولي
وتعقب أنس الاجتماع وحشة الافتراق والفراق بل ان الرحيل صاحبه نزف وعويل وللتعبير عن وطأته كان لزاما أن يتعير نسق الجملة وصيغتها ونمطها ليعلن التحول من التقرير الى الاستفهام المشرب تبرما وضيقا
لم المواعيدُ عقيمة كاللقاءِ ../ والنزفُ يغدو غيمةً حُبلى .../ والينابيعُ تتخثّرُ بِوَهَمِ الزمرّد .... ؟
ضيق الوجع والأنين بالتحول من أنس اللقاء الى وحشة التشرد وتسكن الحركة معلنة عن وهن دبَ بالاوصال
القوافلُ تسرقها بوصلةَ السباتِ ../ على معاصمِ الطريق إنتفاضة أجنحةٍ مكسّرة ../
والطائر لا يملك الا رقص مذبوج من الألم
وما أشد وجع انتفاضة أجنحة مكسرة
ومع ذلك لا يذوي الشغف ولا يسلم للهزيمة ويظل الحلم يجمجم بالأعماق ويكون الصراع على أشده بين نداء الوجود ومناوئيه وتحاول الأمنيات المحاصرة ايجاد منفذ لها وظلت تجاهد لفتح مقابض شبابيك التخيَل علًها تفتح نافذة منها ياتي بصيص الأمل ويدلف وظلَت في اندفاع وحركة متواصلة لتجد لها منفذا للواذ وللتطهر في منابع النور وتمسح شيخوختها وما علق بها من أدران ارض التيه ../ تتلوّى في مقابضِ شبابيكِ التخيّلِ ../ خواتم مغشوشة معقوفةً تنبشُ بأوهامها
لعلّ المرآيا على وشكِ التسلّلِ ../ تقبّلُ رفاتَ سنينٍ تنامُ على آهةِ الطريق ../ تهزهزُ ملامحاً مغبرةً يشيّعها الحنين
مرضوضةٌ تهتفُ الفوانيس ../ خلعتْ دخانها على جرحِ جمراتها ../ وأنسلّتْ في مياهِ الإنحدار تمسحُ شيخوختها
وهكذا تكون النهاية مفتوحة على احتمالات عدة اذ الاشكالية تظل مطروحة وتفتح آفاق انتظار كثيرة فى ترقب لقمر يتوهج في محطات الندى بعدما يجتاز
معتَق الوجع امتحان مغالبة الغد المبعثر كالبردِ
للفلات من ربقة مناهض الانبعاث من جديد وفي انتظار انبجاس مواسم الغيوم
واجمالا كانت قصيدة وجع أشيب ...وكفَ عذراء للشاعر العراقي الشغوف بالمسرح ودينامكيته كريم عبد الله منفتحة على مجالات ابداعية متعددة اذ انفتح النص الشعري على قوالب فنية اخرى ولا سيما المسرح واستعار منه مبدا الصراع ليقيم جدلا بين حركة النفس وتوقها للخصب والنماء والجمال واصتدامها بعوائق ومثبطات ويظل الصراع قائما والنهايات مقتوحة على أكثر من احتمال وما هذه النهاية المفتوحة الا دعوة للمتلقي لمشاركة الشاعر التفكير في ما به ينبتُ قمراً يتوهّجُ في محطاتِ الندى
بقلم الاستاذة
Azza Khazrahi
Azza Khazrahi
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق